سودانيون

نماء أبوشامة..تكتب.. حين يصبح البُعد قدرًا

لم تكن الغربة يومًا خيارًا، لكنها جاءت كقدرٍ لا يُستأذن، كريحٍ حملتنا من أرضٍ إلى أخرى دون وداعٍ كامل.
نحمل في حقائبنا ما تبقّى من رائحة البيوت، وصوت الأمهات، وصور الأحبة الذين غيّبهم الموت، وكأنهم ما زالوا هناك، ينتظروننا عند باب المساء.
أمس، كنتُ أتحدث مع صديقي البعيد، هو في غربةٍ خارج البلاد، وأنا أعيش غربةً داخلها.
قلتُ له: الغربة لم تكن خيارنا، سواء كنّا خارج الوطن أو بين حدوده، فالأمر سيّان.
كلاُنا نحمل ذات الوجع، ذات الفقد، ذات الصراع بين الحنين والواقع.
فما الغربة إلا شعور يسكن القلب لا الخريطة، ومسافة لا تُقاس بالأميال بل بالمسافة بين الروح ومن تُحب.
نغترب عن البلاد، ثم نكتشف أن الغربة الحقيقية تسكن فينا، لا في البعد.
نعيش بين الناس، نضحك، نعمل، نختلط، لكن شيئًا في القلب يظل موصدًا لا يُفتح إلا بصوتٍ من الوطن، أو برسالةٍ من يدٍ تعرفنا كما كنّا.
الغربة ليست مكانًا، إنها حالة فقدٍ طويلة، نرتديها كل صباح وننام بها كل ليل، نحاول أن نتعايش معها كما يتعايش الجرح مع الذاكرة.
وحين نُحاول العودة، نكتشف أن الوطن تغيّر… وأننا تغيّرنا أكثر.
كم مؤلم أن تكون قريبًا من كل شيء وبعيدًا عن نفسك، أن تمرّ الأعوام ونحن نحسبها بالاشتياق لا بالتقويم، أن نصحو على أسماءٍ لم تعد تُجيب، ووجوهٍ حفظنا ملامحها من صُورٍ باهتة.
نحن الذين كتبنا للغربة ألف تعريف، لكنها في النهاية تعريفٌ واحد:
أن تشتاق لِمكانٍ لا يعود كما كان، ولناسٍ غيّبهم الغيابُ الأبدي،
وأن تُدرك — متأخرًا — أن البُعد لم يكن سفرًا، بل حياةٌ مؤجَّلة على أمل اللقاء.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.