رجل من البادية ترك أقاربه وأهله وفزعته، وتودّد إلى الغرباء ظنًّا منه أنه يُحسن صُنعًا. وكانت أمّه، التي عركتها السنين والتجارب، أكثر منه حكمة وأبعد نظرًا، فعاتبته بعدما ذاق طعم الخذلان قائلة:
“قبيل يا مايل مالك
مرابع الما ببقالك
بدور صالح في جوارك
يلف دوار لا بُكارك.”
والربيع عندنا هو الجار، أو ربما الشريك مع بعض الاختلافات . وقديمًا قالوا: “الخلا ولا الربيع الفَسَل”.
كانت الأم تريد أن يكون ابنها برفقة ابن أختها صالح، الذي تثق فيه وفي نُجدته.
وربما يمثل هذا الابن القاصي قومًا يتميزون بالعناد وقِصر النظر والتفكير، كما نسميها بالسوداني: “الشِتَر”.
ولا أجد ممثلًا حقيقيًا لهؤلاء سوى الدكتور النعمان عبد الحليم، الذي قدّم نفسه على قناة الجزيرة مباشر أمينًا سياسيًا للمؤتمر الوطني، وهو بالطبع ليس المؤتمر الوطني الذي نعرفه، بل تيار صغير مغاضب بقيادة إبراهيم محمود.
تحدث النعمان باسم هذا التيار، ولا أدري هل الاعتذار هو خط هذا التيار الجديد أم اجتهاده الشخصي .
لكن المؤسف أن النعمان أظهر ضعفًا وانكسارًا أمام تيار اليسار، الذي كان ينتظر هذا الاعتذار الكذوب فالاعتذار عندهم ليس من أجل الشعب أو الوطن، بل هو للإدانة السياسية والقانونية والأدبية لكل التيار الإسلامي.
كانوا يؤلفون القصص والحكايات وينسبونها زورًا وبهتانًا لبعض القيادات، أبرزهم البروفيسور حسن مكي، إلى أن وجدوا ضالتهم في النعمان، الذي فضّل الابتعاد عن خط إخوانه والتودد لليسار .
وسيُقيمون الليالي والاحتفالات احتفاءً بهذا الاعتذار الذي يمثل إدانة واضحة وصريحة للتيار الإسلامي.
الغريب في الأمر أن النعمان نفسه سُجن بتهمة لا وجود لها، وذاق مرارة الحبس، ولم يجد من يعتذر له .
قيادات التيار الإسلامي قضوا سنوات في السجون، بعضهم مات وهو يشكو مرارة الظلم دون أن يجد من يعتذر له .
و الحقيقة هي أقبح السنوات التي عاشها الشعب السوداني هي التي تلت عام 2019م، والتي كانت نتيجتها هذه الحرب التي دخلت كل بيت سوداني، ومع ذلك لن نجد من يعتذر لنا .
في ظل طغيان تيار اليسار، تفاخر وزير الخارجية قمر الدين بأنه هو من كتب الوثيقة التي بموجبها فرض الكونغرس العقوبات على السودان عام 1997م، ولم يعتذر للشعب السوداني حتى الآن.
وفي القناة الفرنسية (فرانس 24) كان عبد الواحد محمد نور يفتخر بأنه أشعل الحرب عام 2003م حتى لا تستقر حكومة الإسلاميين وتقدّم الخدمات للشعب، ويصعب تغييرها. لذلك أشعل الحرب ليستنزف موارد البلاد وأموالها من خلال الحرب .
ومع ذلك، لم نسمع من يطالبه بالاعتذار.
إن أخطاء القوى السياسية منذ عام 2019م وحتى اليوم لا يمكن تجاوزها بمجرد الاعتذار أو بعبارة “عفا الله عمّا سلف”، ناهيك عن الأخطاء التاريخية التي ارتُكبت بحق هذا الشعب الصابر .
لكن النعمان، من أجل التقرب لليسار أو لفت الأنظار، لا مانع لديه أن يعتذر هو أو حزبه. ولو سألته: “عن ماذا تعتذر؟” لما وجدت جوابًا.
شباب التيار الإسلامي الذين يتدافعون بالآلاف للدفاع عن الوطن وردّ كيد المعتدين، في نظر النعمان، يجب عليهم الاعتذار!
الدماء، والجراح، والخنادق، والبنادق، والش هداء — لا تكفي، بل يجب أن يعتذر الجميع حتى يرضى اليسار وحلفاؤه! .
هذه الحرب التي فُرضت على السودان بتخطيط وتدبير من القوى السياسية وبعض القوى الإقليمية والدولية، يرى النعمان أنه يجب أن يعتذر عنها الإسلاميون! .
المحاصرون في الفاشر وكادقلي والدلنج وبابنوسة، والمشردون، والحرائر المغ تصبات، والذين نُهبت أموالهم — في رأي النعمان — يجب أن يعتذر لهم التيار الإسلامي، وليس الجنجويد وحلفاؤهم من “القُحاتة” واليساريين والليبراليين الجدد!
أما في الجانب الآخر، وفي صورة أكثر وضوحًا وإظهارًا للحقائق، خرجت بورتسودان كلها تودّع الدكتور محمد طاهر إيلا، أبرز قيادات التيار الإسلامي ورئيس الوزراء الأسبق.
احتشاد الآلاف في مطار بورتسودان، وفي الاستاد، وحتى في المقابر، يمثّل حقيقة واحدة:
أن التيار الإسلامي ما زال الأقوى في الساحة والأكثر جماهيرية، رغم مطالبة النعمان له بالاعتذار .
فالاعتذار في نظرهم يعني الإدانة، وإضعاف الدور لصالح اليسار، وربما تكون الإدانة خطوة نحو إبطال فعله السياسي مستقبلاً .
وقد نرى قريبًا شعارًا يقول:
“لا مستقبل لمدان!”