للحقيقة لسان
رحمة عبد المنعم
الحارث إدريس.. خطاب الكرامة
لم يكن خطاب السودان في مجلس الأمن الخميس مجرد بيان عابر في جلسة مكتظة بالتصريحات الدبلوماسية، بل كان لحظة فاصلة في تاريخ الصوت السوداني الرسمي داخل المنابر الدولية، فقد تحدث السفير الحارث إدريس، مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة، بلسان بلد يئن تحت نار الحرب ويواجه وحده جيوش المرتزقة وداعميهم، فرفع نبرة الحق في وجه التجاهل، وسمّى الأشياء بأسمائها بلا تردّد، كان صوته حاداً، ثابتاً، خالياً من المجاملة،قال بوضوح إن مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية وفق كل المعايير الدولية، وإن من يموّلها أو يسلّحها أو يؤويها شريك في الجرائم التي ترتكب في الفاشر ودارفور وعموم السودان،لم يكن ذلك حديثاً سياسياً بقدر ما كان نداءً أخلاقياً، إذ وصف السفير صمت المجتمع الدولي بأنه تواطؤ مشين وتحريض بالإشارة، مؤكداً أن شعب السودان لن يغفر لمن تجاهل مأساته وتغاضى عن دماء أبنائه.
الخطاب، في مضمونه، أعاد الدبلوماسية السودانية إلى أصلها الأول: الكلمة التي تحمل معنى الكرامة،ففي الوقت الذي اكتفى فيه كثيرون بالتلميح، ذهب الحارث إدريس إلى الصراحة المطلقة، طالب مجلس الأمن بإدانة قاطعة للمجازر، وبتحقيق عاجل في الإبادة الجماعية في مدينة الفاشر، وفرض عقوبات محددة على كل من يمدّ المليشيا بالسلاح أو المال أو المرتزقة، ثم تجاوز حدود النصوص إلى حدود المبدأ، حين قال إن لا تفاوض مع هذه المليشيا الإرهابية ما لم تضع السلاح وتكفّ عن العدوان على الشعب السوداني،كانت لغته مزيجاً من غضب الميدان ووقار المنبر، إذ جمع بين لهجة الدولة وسيادة الشعب في خطاب واحد.
ولم يكن السفير الحارث يوجّه كلامه إلى المجلس فحسب، بل إلى العالم بأسره، فحين تحدث عن الطيران الأجنبي الذي شارك في قصف مواقع الجيش في الفاشر مستخدماً غاز الأعصاب المحظور دولياً، كان يعرّي وجهاً مستتراً من وجوه الحرب، قال ما لا يجرؤ كثيرون على قوله، حين ألمح إلى دعم خارجي يمدّ المليشيا بوسائل القتل الحديثة ويغذّي الفوضى، ثم جاءت لحظة ردّه على مندوب الإمارات محمد أبو شهاب لتتحول الجلسة إلى مواجهة علنية بين الموقفين: قال الحارث إدريس بصلابة نادرة إن سماع مندوب الإمارات يتحدث تحت قبة هذا المجلس إهانة لدماء الأبرياء في الفاشر، وإن مكانه ليس في هذا المجلس بل مع ميليشياته في دارفور، كانت العبارة كافية لتلخّص الموقف كله: لا حياد مع من يزرع الموت، ولا دبلوماسية مع من يغسل يديه من دماء الأبرياء وهو الذي موّل القتلة.
لقد بدا الحارث إدريس في تلك الجلسة صوتاً يتجاوز حدود التكليف الرسمي إلى حدود الرسالة الوطنية، لم يكن يقرأ من ورقة أعدّتها وزارة الخارجية، بل من ضمير شعب فقد الكثير من أبنائه وصبر كثيراً على خذلان العالم، كان خطابه امتداداً لصوت الجنود في الجبهات، وصدىً لدموع الأمهات في المخيمات، وإعلاناً بأن السودان، رغم جراحه، لا يزال واقفاً على قدميه،قال الحارث إن بلاده ستعتمد على “مجد البندقية” في الدفاع عن النفس بموجب الميثاق، وإنها لن تساوم في حقها في البقاء، ولن تقبل إشراك القتلة في الحكم كما تريد بعض الدول الغربية.،كانت تلك لحظة نادرة تخرج فيها الدبلوماسية من العبارة الموزونة إلى الكلمة المبدئية.
من تحت قبة الأمم المتحدة، أعاد مندوب السودان تعريف معنى الموقف حين يصبح المبدأ أغلى من التحالف، وحين تكون الكرامة أثمن من الصمت، كان خطابه أشبه بصفعة في وجه نظام دولي تعوّد أن يساوي بين الجلاد والضحية، لم يطلب الحارث الشفقة، بل طالب بالعدالة، لم يستجدِ، بل ذكّر العالم بالميثاق الذي وُلدت عليه الأمم المتحدة: حماية الشعوب من الإبادة، ومنع العدوان الخارجي،وفي ذلك التذكير كان استنهاض لضمير العالم أكثر مما كان مطالبة سياسية.
لقد كان السودان، في تلك اللحظة، أكبر من جراحه، دولة تتحدث في زمن الألم لكنها لا تنكسر،والذين تابعوا الجلسة أدركوا أن هذا البلد العريق، رغم ما يمرّ به، لا يزال يملك من الشجاعة ما يكفي ليقول للعالم كله: إن من يقتل شعباً لا يمكن أن يُسمّى حليفاً، ومن يموّل حرباً لا يمكن أن يُدعى وسيطاً للسلام، لقد استعاد السودان صوته في مجلس الأمن، لا بالصراخ، بل بلغة الحق. وهكذا بدا خطاب الحارث إدريس أشبه ببيانٍ للكرامة في زمن المساومة، وصرخة وطنٍ قرر أن يقف وحده في وجه التواطؤ، مؤمناً أن الكلمة الصادقة، مهما كانت وحيدة، تبقى أقوى من ضجيج العالم بأسره.