سودانيون

رحمة عبد المنعم يكتب: في محبة عبد العظيم (الصالح)

رحمة عبد المنعم يكتب: في محبة عبد العظيم (الصالح)

شاهدتُ أول أمس الأربعاء حلقة جديدة من البرنامج التلفزيوني الرائع (صاحبة الجلالة) الذي يقدّمه الأستاذ الكبير صلاح عمر الشيخ على قناة الزرقاء، ويوثّق فيه لرموز الصحافة السودانية، كانت المقدمة بسيطة كعظمة الأشياء الصادقة، حين قدّم الرمز الكبير عبد العظيم صالح، أحد أعمدة الصحافة السودانية الذين يشبهونها في وقارها وشموخها وصبرها على التعب.

لم يكن الحوار مجرد لقاء تلفزيوني؛ كان كأننا نفتح دفتراً قديماً من دفاتر الزمن الجميل، حيث الكلمات تُصاغ بصدق، والمهنة كانت تربية قبل أن تكون كتابة، فالصحافة عند عبد العظيم خُلُق قبل أن تكون قلماً، وضمير قبل أن تكون مهنة، تحدّث عن أيامه الأولى في مدرسة أبودليق الثانوية، وكيف بدأت الشرارة في حصة إنشاء، حين اكتشف أساتذته تلك الموهبة المبكرة التي قادته إلى درب الصحافة عن تأهيلٍ واقتدار.

تدرّج في المهنة بثبات المؤمن بطريقه، من محررٍ صغيرٍ يكتب بولهٍ جميلٍ إلى أن أصبح رئيس تحرير صحيفة (آخر لحظة)، وعمل خلال مسيرته بصحف أخبار اليوم، والسوداني الدولية، وغيرها، مارس مهنة التدريس، وهو (لَبِيسٌ ومن هيئة التدريس)، فحمل معه إلى قاعات التحرير سلوك المعلّم ووقاره، لذلك حين يتحدث بجديةٍ تُصغي إليه كما يصغي الطلاب إلى أستاذهم الأول.

عبد العظيم صاحب نكتة وطرفة حاضرة، يُضحكك بعفويته، ويأخذك بجدّيته حين يختار أن يُعلّم، رجلٌ متواضع، لا يسعى إلى الأضواء، ابن بلدٍ أصيل، يحدّثك عن أم الطيور وشندي ومجتمعات نهر النيل والجزيرة وكسلا ودارفور فتطرب له، لأنه سوداني شامل لا يعرف ضيق الجغرافيا ولا تعصّب المناطق.

لقد حرمتني الحرب اللعينة من لقاء عبد العظيم لأكثر من عامين، وحين التقيته في القاهرة بعد طول غياب، كان اللقاء بالأحضان والدموع وحديث الذكريات الذي لا يشيخ، تبادلنا الحنين إلى المهنة التي تشبهنا وتنهشنا في الوقت نفسه، وحين التقيته قبل أيام، ابتسم وقال لي برقة الأب: «أتابع مقالاتك في الكرامة، وأنا من قراء ما تكتب، جرّب كتابة الرواية… ستنجح».

ذلك ليس تشجيعاً عابراً، بل بصمة من معلمٍ خبر الموهبة وعرف طريقها، فهو يتعامل بأبويةٍ ومحبةٍ تشعرك أنه والدك، وكم من مرةٍ وجدت في كلماته سنداً، حين أطلقتُ صحيفتي الإلكترونية (سودان لايف)، فكان أول الداعمين، يمدّني بالنصح ويغمرني بإيمانه بالتجربة، رغم أن المشروع لم يستمر طويلًا.

عبد العظيم صالح محلل سياسي بارع، واقتصادي شاطر، وصاحب قراءة ثاقبة للواقع، يكتب فيبدع ويمتع، يُحسن اختيار العناوين، ويُلبس الفكرة لغتها كما يُلبس المعلم بدلته بعنايةٍ واعتزاز، رجل قامة ومدرسة، تعلّمنا منه أن الصحافة ليست سباقاً نحو الضوء، بل سعيٌ نحو الحقيقة، وأن الكلمة لا تُكتب لتُصفّق الجماهير، بل لتوقظ الضمير.

سلامٌ على الجميل (الصالح) عبد العظيم، الذي كلما التقيته شعرت أن الزمن لم يتغيّر، وأن في الصحافة ما زال بقية من نقاء الأوائل.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.