سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: الفخاخ الصهيونية.. فوضى السودان بوابة التطويق لمصر وإعادة تشكيل المنطقة

محمد الحسن محمد نور يكتب: الفخاخ الصهيونية.. فوضى السودان بوابة التطويق لمصر وإعادة تشكيل المنطقة

منذ أن اندلعت الحرب في السودان عام ٢٠٢٣، لم تعد الأحداث مجرد صراع داخلي، بل تحولت إلى حلقة متقدمة ضمن سلسلة المخططات الصهيونية الرامية إلى الإمعان في تمزيق العالم العربي. فالسودان اليوم لم يعد ساحةً لصراع إقليمي فحسب، بل أصبح يمثل رأس الرمح لمشروع تطويق مصر من بوابتها الجنوبية.

مصر، تلك القلعة التي ما تزال تقف عقبة في وجه المخططات الإسرائيلية، والتي أثارت حنق أميركا وإسرائيل حين أظهرت في لحظة فارقة موقفًا حاسمًا برفضها خطة تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، وأجهضت بذلك واحدًا من أخطر مشاريع الصهاينة في السنوات الأخيرة. لقد أصابتهم بالغضب، في وقت كان الرئيس ترمب واثقًا من أن مصر ستفعل ما يريدون، مستندين إلى مواقفها السابقة بموجب اتفاقية السلام الموقعة في كامب ديفيد.

ولفهم أعمق للسياق، لا بد لنا من العودة إلى الجذور. فمنذ اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة عام ١٩١٦، مرورًا بوعد بلفور الذي شرعن زرع الكيان الغاصب، ووصولًا إلى الربيع العربي الذي صبّ في مصلحة إسرائيل أكثر مما نفع شعوبه، ظل النمط واحدًا: تفتيت الوطن العربي، وزرع الفتن والخلافات بين حكامه، وتغذية الأوهام النفعية الضيقة على حساب الرؤية الجامعة.

لقد نجح الغرب في زرع كيان توسعي عدواني متعجرف داخل جسد الأمة العربية، سلّحه نوويًا خارج الرقابة الدولية، ثم أحاطه بسياج من الحماية الغربية، بينما واصل قادة العرب غفلتهم وصراعاتهم العبثية.

والسودان لم يكن بعيدًا عن هذا المخطط، بل صار نقطة ارتكاز جديدة له. فالفوضى التي أُطلقت داخله لم تكن مجرد نتيجة انهيار داخلي، بل كانت مقدّمة ضرورية لمخطط إقليمي أوسع.

قوات الدعم السريع، المدعومة إماراتيًا وبضوء أخضر إسرائيلي، سيطرت في عملية مدروسة على المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا وتشاد، بمشاركة مباشرة من قوات المشير خليفة حفتر.

هذه السيطرة العسكرية تمثل تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا لمصر من الجهة الجنوبية الغربية. وهناك، في ذلك الركن القصي، وبعد إحكام قوات الدعم السريع سيطرتها، أطلت إسرائيل وأميركا برأسيهما متنكرتين في قناع حميدتي الغائب عن الساحة لعامين ونيف. أطلت وهما ترفعان كعادتهما “العصا والجزرة” بيد حميدتي، الذي ظهر مغازلًا مصر على طريقة المافيا، وملوّحًا لها في ذات الوقت بعصًا أغلظ، حين أعلن تأسيس دولته الموازية في منطقة كاودا بالاشتراك مع عبد العزيز الحلو، المتمرد هناك في جبال النوبة، لمزيد من تعميق الفوضى والتهديد بتقسيم السودان.

في ذات الوقت، كانت إسرائيل تتحرك بهدوء في الخلفية وتمضي قدمًا في تعزيز وجودها حول منابع النيل. تعزز تحالفاتها في إثيوبيا وأوغندا وجنوب السودان، وتكتسب نفوذًا غير مسبوق على أهم شريان مائي في العالم، ذلك الشريان الذي يسقي السودان، ويقع موقع الروح من جسد الدولة المصرية.
يحدث هذا وسط صمت رسمي وتواطؤ من بعض القوى الإقليمية.

في ظل هذا التهديد المتصاعد، أفاقت مصر أخيرًا وبدأت تتمرد على ضغوط دولة الإمارات وتتحرك لحماية أمنها القومي. فبدأت تحركًا مستقلاً، باستضافة الرئيس عبد الفتاح السيسي لكل من المشير خليفة حفتر ثم الفريق عبد الفتاح البرهان بالتوالي في العلمين لمعالجة المشكلة بينهم.

لكن ما لبثت الولايات المتحدة أن دخلت على الخط، معلنة — على لسان مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب — عن استضافة مؤتمر رباعي يضم مصر، الإمارات، السعودية، وقطر، لمعالجة ملف الحرب في السودان.
ومن الواضح أن هذه المبادرة قد جاءت نتيجة مباشرة لتحركات القاهرة، التي طالبت بوقف الدعم الإماراتي غير المعلن لقوات الدعم السريع.

لكن الراجح في تقديرنا أن هذا المؤتمر لا يهدف في جوهره إلى وقف الحرب أو حل النزاع في السودان، بقدر ما يهدف لترميم الخلل ورأب الصدع داخل معسكر الحلفاء، بعد أن ظهرت التقاطعات في دعم أطراف النزاعات في المنطقة، واتضح أن بعضهم يدعم من يهدد حدود مصر الاستراتيجية.

وهنا تبرز مجددًا أهمية السودان في الخارطة الصهيونية.
فسقوطه في الفوضى ليس صدفة، وإنما تمهيدًا لمرحلة أخطر — مرحلة يتم خلالها خنق مصر، وتسييل مجمل المنطقة، وإعادة ترسيمها على هواهم، كما صرح بذلك كل من نتنياهو والرئيس ترمب.

فبينما يتقدم الدعم السريع على الأرض، تحت حماية غير مباشرة، تتفاقم الفوضى الليبية غربًا، وتقف إسرائيل متحفزة شرقًا، وفي حالة استعداد دائم للتدخل المباشر إذا اقتضت الضرورة.

هذا جانب، إلا أن الجانب الأخطر من كل ذلك يبقى هو التهديد المائي: سد النهضة الإثيوبي، الممول إماراتيًا، والمُشيَّد بتقنيات أمريكية وإسرائيلية، بات أداة ضغط فعالة بيد خصوم مصر.
ومع السيطرة التدريجية على منابع النيل الأبيض أيضًا، تصبح المعادلة واضحة وضوح الشمس: من يملك الماء يملك القرار، ومن يقطع النيل عن المنطقة وعن مصر، يقطع عنها الحياة.

إن التحركات المصرية الأخيرة، وإن حملت بعض إشارات الصحوة، إلا أنها قد جاءت متأخرة وغير حاسمة. فالمشروع الصهيوني لا يتوقف، والأدوات التي يستخدمها اليوم لا تقتصر على إسرائيل وحدها، بل هناك شركاء إقليميون قد أصبحوا جزءًا مهمًا من منظومة الاختراق الناعم.

فإذا استمرت مصر في هذا الحذر السياسي، دون أن تعلن موقفًا حاسمًا، فإنها قد تجد نفسها في لحظة مفصلية محاصرة من الجنوب والغرب، ومخنوقة من الشرق، ويقتلها العطش.

الساعة تدق.

فإما أن نرتقي بعقولنا ونتوحد، ثم نبدأ العمل لنستعيد السودان من براثن الفوضى ونقطع الطريق على أدوات التطويق،
وإما أن نبقى سادرين في غينا، لا نرى أبعد من أنوفنا، وننتظر حتى يُكتب مصيرنا على طاولة خصومنا.

٣ يوليو ٢٠٢٥

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.