محمد الحسن محمد نور يكتب: عودة إلى العقوبات الأمريكية.. اتهام بلا تحقيق، وانحياز مفضوح، وانتهاك صارخ للقانون الدولي
محمد الحسن محمد نور يكتب: عودة إلى العقوبات الأمريكية.. اتهام بلا تحقيق، وانحياز مفضوح، وانتهاك صارخ للقانون الدولي
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، بالأمس، بدء تنفيذ حزمة جديدة من العقوبات كانت قد أعلنت فرضها على الحكومة السودانية، على خلفية مزاعم باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية.
شملت هذه العقوبات قيودًا على الصادرات الأمريكية إلى السودان، ومنع الوصول إلى خطوط الائتمان.
إنها محاربة اقتصادية شاملة تستهدف اقتصادًا منهارًا أصلًا.
ثم… إنهاء المساعدات الأمريكية للسودان.
ثم… وقف مبيعات الأسلحة، والقروض، وتمويل صفقات السلاح.
ثم… حظر التكنولوجيا.
هذا يعني أن أمريكا لم يتبقَّ لها إلا أن تحظر الهواء عن الجيش والشعب السوداني على حد سواء.
كل هذه العقوبات، وبكل هذه القسوة، كانت جائرة فعلًا؛ حيث إن الثابت أن هذه التهمة – رغم خطورتها – لم تُخضع لأي تحقيق أصلًا، لا محايد ولا منحاز، ولم يصدر بشأنها أي تقرير أممي، ولا حتى بيان فني مستقل.
ببساطة، لأن المنطقة التي أشارت إليها الولايات المتحدة ظلت منطقة عمليات عسكرية خطيرة ومقفولة، لم يدخلها أحد حتى موعد إعلان العقوبات.
ورغم ذلك، وبكل ما أوتيت من صلف، لم تتردد واشنطن في إصدار قرارها، بل وحكمها السياسي، وتنفيذ عقوباتها مباشرة وعلى وجه السرعة، دون الالتفات إلى مجلس الأمن، أو القانون الدولي، أو حتى مجرد التفكير في أي مسار قضائي طبيعي.
هذا القرار، في توقيته ومضمونه، لا يمكن فصله عن تطورات الحرب في الميدان.
فالعقوبات لم تأتِ نتيجة اتهام موثق، بل جاءت متسرعة تمثل “فزعة سياسية” لقوات الدعم السريع، التي تتجرع هزائم مرة ومتلاحقة ألحقها بها الجيش السوداني، حين طردها من الخرطوم، والجزيرة، والنيل الأزرق، والنيل الأبيض، وجعلها محاصَرة في كردفان ومهددة في دارفور.
ولعلها كانت بحاجة إلى دفعة معنوية وسياسية من الخارج، فأتت العقوبات الأمريكية – ليس صدفة – لتنفخ فيها الروح وتمنحها الأمل، عبر محاولة خنق الجيش السوداني.
إن هذه العقوبات تحمل أبعادًا خطيرة للغاية، تتجاوز حدود الضغط الدبلوماسي، لتطال القدرة الدفاعية للمؤسسة العسكرية السودانية:
تضييق على التسليح، تعطيل للإمداد، تشويه لصورة الجيش عالميًا، بهدف حشد مزيد من الاصطفاف الدولي ضده والوقوف إلى جانب الميليشيا.
في المقابل، تبدو قوات الدعم السريع، التي تحاصر مدينة الفاشر منذ شهور، وقد أدركت أن الحبل ممدود لها. فهي لا تأبه بقرار مجلس الأمن الداعي إلى فك الحصار عن المدينة، وترفض الانصياع له، بل تمضي في إجرامها ونهجها المشهود، فتتفنّن في ارتكاب الجرائم ضد المدنيين في معسكرات النزوح، وحتى ضد الموظفين الأمميين وقوافل الإغاثة.
وتزيد من الطين بلة حين توثق جرائمها بنفسها وتتباهى بها!
تُركت هذه الميليشيا الإرهابية بلا أي عقوبة مؤثرة، رغم تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي وثّقت جرائمها – والتي سبق أن وثّقتها هي بنفسها – من تطهير عرقي، واغتصاب، ونهب، وقتل جماعي، وتدمير للبنى التحتية، وحرق للأرض.
والأخطر من ذلك كله، أن دلائل راجت في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، “دون أي نفي رسمي لها”، تفيد بأنه قد تم تمكين هذه القوات فعليًا من السيطرة على المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا وتشاد، لضمان خط إمداد مؤمّن يربطها بقوات اللواء خليفة حفتر في ليبيا، الموالي للولايات المتحدة.
هذا الامتداد الجغرافي منح الميليشيا عمقًا استراتيجيًا يصعب قطعه أو اختراقه، فتنفّست الصعداء، وراحت تغازل مصر – التي لم تحرك ساكنًا – لتضمن عدم استفزازها، وهي تقف على حدودها وتهدد أمنها القومي.
في المقابل، يُعاقب الجيش الشرعي، الذي يحمل الصفة الرسمية ويمثل سيادة الدولة، بموجب ادعاءات لا أساس لها.
الجيش، بوصفه المؤسسة العسكرية والذي لا بديل له، يُعاقب بتهمة لم تثبت، بينما يُغضّ الطرف عن الميليشيا رغم الجرائم الثابتة بحقها، بل وتُطرح كشريك محتمل في التسوية السياسية!
هذه المقارنة وحدها كافية لكشف حقيقة الانحياز:
وهذا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على إطالة أمد الحرب، فالولايات المتحدة الأمريكية تعلم جيدا أن المليشيا لا يمكنها الانتصار في الميدان، وحتى إن حدث ذلك فهي لا تستطيع حكم السودان بعد كل الذي فعلته، ولن يقبل الشعب السوداني بها مطلقاً.
أما من الزاوية القانونية، فإن العقوبات الأمريكية الأحادية تمثل خرقًا صارخاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وصفعة لمبادئ منظمة التجارة العالمية التي تمنع فرض عقوبات اقتصادية خارج إطار المنظمة.
ومع ذلك، تواصل واشنطن فرض عقوباتها على كل من لا يواليها وتُنصّب نفسها حاكما مطلقا للعالم فوق القانون، مستندة فقط إلى منطق القوة الغاشمة، ضاربة بشرعية المؤسسات الدولية عرض الحائط.
وربما نستأنس في هذا السياق بسلوك الولايات المتحدة تجاه المحكمة الجنائية الدولية، حين هددت بمعاقبتها بعد إصدار مذكرة اعتقال ضد ابنها المدلل بنيامين نتنياهو.
إن ما يحدث الآن لا يعدو أن يكون حلقة جديدة في مسلسل الابتزاز السياسي باسم القانون، والعدالة الانتقائية التي تدنّس اسم حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.
والنتيجة هنا واحدة: إطالة أمد الحرب، وضمان ألا يكون هناك منتصر، وتفكيك الوطن، وإدارة الأزمة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
ثقتنا تبقى راسخة بأن السودان لن ينكسر أمام مؤامرات الأعداء، وسينتصر بقوة شعبه كما انتصرت فيتنام وأفغانستان.
ورغم الصعوبات الجسام، فإن السودان اليوم ليس بلا خيارات.
فعليه أن يقطع الطريق على من يعاديه دون تردد، ويتجه إلى الخيار الذي يخشاه خصومه: الدخول في اتفاقات رصينة، تتسم باحترام السيادة الوطنية.
التاريخ لا ينسى،
وسيصنع الشعب الشرعية التي تبقى حين يسقط الزيف، وتنهض الحقيقة على أنقاضه.
﴿وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾
صدق الله العظيم