سودانيون

منى أبو زيد تكتب.. هناك فرق: من واشنطن إلى الدندر..!

هناك فرق

منى أبو زيد

من واشنطن إلى الدندر..!

“إذا تحدثت الدولة بلسان السوق فقد الخطاب الرسمي وزنه النوعي، وإذا اقترب الحاكم من الشعب، أكثر مما ينبغي، فقدَ٠ أحدهما مكانه أو مكانته”.. الكاتبة..!

الأمهات هن الأمهات في كل مكان وعند كل زمان، نحيلات كُنَّ كفزّاعات الطيور أم مكتنزات كأسرار البيوت القديمة، عمليات كُنَّ مثل الحواسيب أو عاطفيات بما يكفي للإفساد بالدلال..!

وسواء كان طعامهن هو البيض بالأفوكادو وشرائح اللحم نصف المطهو مع صلصة المشروم، أو كان عصيدة وملاح تقلية وكمونية وضلع، يبقى طعام الأم هو الأشهى، والأقدر على استدعاء حكاية بافلوف بجرس الذكرى، كلما تلفت القلب واندلع الحنين..!

تظل الأم هي الحبيبة الأولى، والمرجعية الأسرية المقدسة، والسلطة الوجدانية الأجدر بالولاء والبراء. ومع ذلك – أو ربما لذلك – تحضر سيرة الأمهات أحياناً حين يغيب العقل عند الغضب، وعند الفقد، وفي لحظات الانفعال التي ينازع فيها الإنسان قاعه النفسي بعيداً عن سقفه الأخلاقي والثقافي..!

ربما لأن بعض المنابر السياسية اليوم قد باتت “في ظل ظواهر الفقر الأخلاقي، وبعد شيوع مظاهر معاداة النخبوية” أقرب إلى مشاهد الشوارع العامة – ومشاداتها العابرة، ولحظاتها الانفعالية – كان التعريض بسير الأمهات هو المشهد “الماستر سين” في موقفين متباعدين على الخريطة، متقاربين في مظاهر الرِّدة الثقافية وأبعاد الدلالة الاجتماعية..!

من واشنطن حيث قالت الناطقة باسم إدارة ترامب في معرض إجابتها على سؤال أحد الصحفيين “أمك” – الله وحده يعلم ما الذي كان يدور في رأسها الجميل “الموشَّى بشرائط ملونة من الحمق” – إلى الدندر حيث قال العم حماد عبد الله حماد قولته الحانقة على مليشيا الدعم السريع، والتي ذهبت مثلاً عند من راقت لهم..!

سكت ترامب في معرض الحاجة إلى بيان، فاعتُبِر صمته بياناً بحسب مقتضى الحال. وصافح الفريق البرهان العم حماد أمام الكاميرات، فاعتُبر موقفه تأييداً. ثم عاد وانتقد العبارة وقائلها، نقداً دبلوماسيا خافتاً، لا يُفسد لموجة معاداة النخبوية قضية..!

الذي يجمع بين الموقفين – الذين أتيا بدوريهما في أعقاب اتهام ترامب لرئيس دولة أخرى ذات سيادة دولية، باستخدام السحر للنيل من عافيته – هو الشعور بالتجرد من الهيبة البروتوكولية القديمة، وصعود مدرسة العفوية – أو العنجهية – الحديثة إلى سُدَّة الموقف العام..!

فلا ضير – والحال كذلك – من أن تطل على المؤتمرات الصحفية في البيت الأبيض، كلمات من لغة الأزقة. شأنها في ذلك شأن بعض الفضفضة أمام الكاميرا في شوارع الدندر. هو إذن وباء معاداة النخبوية الذي ضرب معظم شعوب العالم من واشنطن إلى الدندر..!

لقد صار الخطاب السياسي يُكافئ البساطة ويمقت الرصانة، وصار القائد الناجح هو من يشبه عيوب الناس، لا من يسابق خطواتهم. ترامب فهم اللعبة مبكراً “ليس المهم أن تكون دبلوماسياً، بل أن تبدو مثل فرد من الجمهور” الذي أصابه الملل من تقعر النخب التي تبرق من عليائها فقط. “مثل بنات نعش اللاتي يعتبرن البريق في حد ذاته فضل وجميل، يتجاوز أهل السماء إلى أهل الأرض” ..!

والفريق البرهان فهم اللعبة أيضاً على طريقته “ليس المهم أن تكون بعيداً ومهاباً، بل أن تُشعر الناس بأنك واحدٌ منهم”، حتى لو اضطررت إلى الترحيب بمن يستدعون سير الأمهات جهراً بما لا يقال..!

الدكتور كامل إدريس، الأكاديمي والمدير الأممي المرموق، لم يسلم أيضاً من تلك العدوى، فرأيناه يوزع الورود على ركاب المواصلات العامة، ويقف بين مواطنيه في أحد مقاهي القاهرة، محاولاً أن يتخفف من عباءة الخبير الدولي، ليبدو قريباً من الجماهير وشارعه العام..!

لكن، ما الذي ربحته الشعوب من هذا التقارب؟. لا شك أن النخبوية حين تتعالى تفقد إنسانيتها، لكن الشعبوية حين تستمرئ استخدام لغة السوق، تفقد حكمتها التي هي ضالتها..!

النخبة – رغم عيوبها – هي صمام الأمان الذي يُبقي العاطفة في حدودها، والهيبة في مكانها، والعقل في مقعد القيادة. أما حين تتحول الكلمة الرسمية إلى صدى لحوار الشارع، فإن الخطر لا يكون على اللغة وحدها، بل على فكرة الدولة المدنية نفسها..!

معاداة النخبوية، رغم ظاهرها الإنساني، هي في جوهرها عملٌ غيرُ صالح، لأنها تسحب السياسة من مقامات الفكر إلى ساحات الغريزة، وتجعل من القرب العاطفي بديلاً عن الكفاءة، ومن الانفعال الشعبي مبرراً لسقوط المعايير..!

munaabuzaid2@gmail.com

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.