سودانيون

إبراهيم شقلاوي  يكتب…انقلابات الإسلاميين ومدنية خصومهم

*وجه الحقيقة*

تتصاعد بين الحين والآخر في الفضاء العام موجات من الشائعات حول محاولات انقلابية مزعومة، وغالباً ما تتزامن مع فترات احتقان سياسي وأمني تمر بها البلاد، وتُنسب هذه المحاولات عادةً إلى عناصر محسوبة على التيار الإسلامي أو إلى قيادات عسكرية سابقة.

آخر هذه المزاعم جاءت الاسبوع الماضي في أعقاب حملة إعفاءات عسكرية طالت بعض الجنرالات، لتنتشر على منصات التواصل الاجتماعي أخبار عن محاولة انقلابية جديدة، أُحبطت قبل أن ترى النور. اللافت أن من وردت أسماؤهم في هذه الأخبار، كانوا في وقت سابق محل اتهام بمحاولات مماثلة، بل ووقف بعضهم أمام القضاء العسكري بالفعل.

لكن في واقع الحال، فإن التفكير بعقلانية يفرض سؤالًا مشروعًا: ما الجدوى من المغامرة بانقلاب عسكري في بلدٍ غارقٍ في أتون حرب ضروس للعام الثالث على التوالي؟ بلدٌ نصف سكانه بين نازح ولاجئ، ومدنه منهكة، ومؤسساته الخدمية والتعليمية مشلولة منذ أكثر من عامين. هل في مثل هذا السياق يمكن تصور أن ضباطًا عقلاء سيخوضون مغامرة من هذا النوع؟ أم أن ما يجري ليس سوى جزء من ماكينة دعائية تحاول شيطنة خصم سياسي، أكثر مما تعكس واقعًا عسكريًا فعليًا؟

الزمن الذي كان يُنظر فيه للانقلابات العسكرية كوسيلة مشروعة لتغيير السلطة قد ولى إلى غير رجعة. السودان، الذي سجّل التاريخ السياسي فيه أكثر من عشرين انقلابًا بين ناجح وفاشل، لم يعد يحتمل أي قفز فوق السياق السياسي الطبيعي. فالشعب السوداني، بكافة تياراته، بات أكثر وعيًا، وأكثر إدراكًا لخطورة العودة إلى المربع الأول. لم يعد أحد مقتنعًا بأن الدبابة هي الطريق إلى قصر الحكم، بل أصبح الصبر على مرارة التدافع السياسي أكثر حكمة من تكرار الفشل عبر الانقلابات.

ما يُطرح اليوم من اتهامات للإسلاميين بمحاولات انقلابية ليس سوى امتداد لحالة من الصراع الصفري، حيث لا يعترف أي طرف بشرعية الآخر. وللأسف فإن ما يسمى بـ”المدنية” لدى بعض خصوم التيار الإسلامي ليست سوى قناع يُخفي وراءه نزعة إقصائية، لا تتورع عن استخدام أي وسيلة لتصفية خصومها سياسيًا، بما في ذلك شيطنتهم وربطهم زورًا بمحاولات انقلابية.

لكن التيار الإسلامي، وعلى الرغم من الحصار والتشويه والاعتقالات التي طالت الآلاف من منسوبيه منذ 2019، لم ينكفئ إلى العمل السري، ولم يعلن القطيعة مع الفعل السياسي العلني. بل أعلن – بكل وضوح – عزمه خوض الانتخابات القادمة ضمن تيار إسلامي وطني جامع، باعتباره تيارًا يحمل مشروعًا فكريًا وأخلاقيًا قائمًا على المرجعية الإسلامية.

ويبدو أن خصوم هذا التيار – في ظل عجزهم عن تقديم مشروع وطني مقنع – لا يملكون سوى اختلاق الذرائع وتضخيم الاتهامات. ولعل حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت اللواء عبد الباقي بكراوي وعددًا من الضباط المحسوبين على معسكر الرفض لقوات الدعم السريع، تمثل إحدى صور هذا النهج. هؤلاء الضباط – وإن سبق اتهام بعضهم في محاولات انقلابية – إلا أنهم شاركوا ميدانيًا في القتال إلى جانب الجيش ضد مليشيا الدعم السريع، ما يجعل عودتهم إلى منطق الانقلاب موضع تساؤل مشروع، خاصة في توقيت كهذا.

من جانب آخر، لا ينكر التيار الإسلامي أن الصراع السياسي في السودان تجاوز الأطر الحزبية، ليأخذ طابعًا هوياتيًا. فهناك محاولات واضحة لفرض رؤى علمانية ونيوليبرالية على البلاد خلال المرحلة الانتقالية، بعيدًا عن أي تفويض شعبي. وهو ما يرفضه التيار الإسلامي باعتباره تغوّلًا على حق السودانيين في اختيار نموذج دولتهم عبر صناديق الاقتراع، لا عبر ترتيبات فوقية تُدار من العواصم الخارجية.

الإسلاميون كما أعلنوا لا يطالبون بحصة مفروضة في الحكم، ولا ينتظرون إذنًا من أحد لدخول الساحة السياسية. بل يطرحون أنفسهم كقوة أصيلة، ساهمت تاريخيًا في بناء الدولة، وتقبل الاحتكام للشعب لا للسلاح. وهم على يقين أن زمن الإقصاء قد انتهى، كما أن زمن الانقلابات قد طواه التاريخ. ومن هنا، فإن محاولات ربطهم زورًا بكل اضطراب أمني لا تصب إلا في خانة ترسيخ الفوضى، وتعميق الانقسام الوطني، وإطالة أمد الأزمة.
بحسب وجه الحقيقة فإن السودان اليوم أمام مفترق طرق: إما الخضوع لمعادلات الصراع الصفري والشيطنة المتبادلة، أو التوافق على حدٍّ أدنى من الرؤية الوطنية الجامعة التي تتجاوز الماضي وتؤسس لمستقبل تشاركي. والواجب – في هذا الظرف العصيب – ألا يضيع الزمن في مطاردة أشباح الانقلابات المزعومة، بل أن يُكرّس الجهد نحو طي ملف الحرب، وإعادة بناء الدولة، واستعادة الثقة بين المكونات الوطنية. فالوطن لا يحتمل مزيدًا من التشظي والانقسامات.
دمتم بخير وعافية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.