محمد الحسن محمد نور يكتب: أم الدنيا تحت التطويق… والشرق الأوسط في مهب الريح
منذ عقود، كانت مصر – وما زالت، رغم أزماتها الداخلية – تمثل التهديد الحقيقي للمشاريع الصهيونية في المنطقة. فهي التي حاولت إحياء القومية العربية عبر تكوين الجمهورية العربية المتحدة بالاتحاد مع سوريا، وتبنّت دعم انقلابات عسكرية مؤثرة مثل صعود جعفر النميري في السودان والقذافي في ليبيا، وخاضت حربين ضد إسرائيل: الأولى عام 1967 وانتهت بالهزيمة، والثانية عام 1973 حيث حققت مصر انتصارًا عسكريًا دفع الولايات المتحدة إلى فرض مسار كامب ديفيد لكبح القوة المصرية وإعادة ضبط دورها الإقليمي.
لكن السنوات التي تلت اتفاقية كامب ديفيد كشفت عن مسار متدرج ومنظم لتطويق مصر وإضعاف قدرتها على الحركة عبر أدوات استراتيجية مترابطة. في مقدمة هذه الأدوات: بث وإدارة الفوضى في مختلف أرجاء المنطقة، ثم إدارة أزمة إنشاء سد النهضة الذي يهدد بقطع شريان الحياة وتعطيش مصر، ثم العمل على ضرب الاقتصاد المصري في مقتل من خلال التخطيط لإيجاد بديل لقناة السويس للحد من مكانتها كممر عالمي، وذلك بإحياء مشروع قناة بن غوريون الإسرائيلية لربط الموانئ على البحرين الأحمر والمتوسط، مسبوقًا بفتح طرق برية بديلة مثل طريق الحاويات عبر الخليج وصولًا إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط. تم التمهيد المبكر لذلك بتدويل مدخل خليج العقبة الذي كانت تسيطر عليه مصر، وذلك بنقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، بما يضع حرية الملاحة تحت ترتيبات تخدم إسرائيل والولايات المتحدة.
هذه الخطوات ليست قرارات متفرقة، بل سياق متصل لخطة متكاملة لعزل مصر عن محيطها، وتقليص دورها في ممرات الطاقة والتجارة العالمية، ودفعها نحو الانكفاء الداخلي.
بالتوازي مع ذلك، جاءت الضربة التي تلقاها حزب الله لتكشف عن ترتيبات أوسع. بدا واضحًا أن ثمة تفاهمات سرية جمعت الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران. تغير الوضع في سوريا بصورة خاطفة وغير مقنعة؛ إذ سيطرت قوة مسلحة بقيادة أحمد الجولاني – المصنف إرهابيًا – على السلطة، ونُقل بشار الأسد إلى موسكو. انسحبت روسيا من قواعدها في اللاذقية وحميميم بهدوء وفي وقت قياسي، وتبعتها إيران بصمت، فيما وقعت تركيا اتفاقات غامضة مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” قبل أن تعلن مسرحية حل حزب العمال الكردستاني.
في المقابل، دخلت إسرائيل بقوة بعد أن التقطت أنفاسها من جبهة الشمال، فباشرت تدمير البنى العسكرية السورية، من سلاح الجو والبحرية إلى مخازن الأسلحة، وقطعت طرق الإمداد إلى حزب الله، وبدأت في إنشاء مناطق عازلة. أما الرئيس السوري الجديد – الذي وصل إلى الحكم عبر القوة المسلحة تحت اسم “أحمد الشرع” بعد أن تخلى أبو محمد الجولاني عن اسمه القديم – فيبدو أن مهمته قد انتهت فغاب عن المشهد كليًا، ولم يظهر حتى ببيانات شجب شكلية.
في تقديرنا، هذه التطورات ليست أحداثًا منفصلة، بل عناصر مترابطة من “الصفقة الكبرى” التي تعيد توزيع النفوذ بين القوى الكبرى. ملامح هذه الصفقة تشير إلى ترك الشرق الأوسط للهيمنة الأمريكية–الإسرائيلية، وتقديم أوكرانيا لروسيا على طبق من ذهب، ومنح إيران عضوية النادي النووي مقابل التخلي عن أذرعها في المنطقة والتطبيع مع إسرائيل في نهاية الأمر، والتزام تركيا بالصمت مقابل إطلاق يدها في شمال سوريا، فيما تُستنزف السعودية والخليج وتُعاد صياغة أدوارهما ضمن خرائط الهيمنة الجديدة.
أما نحن وباقي الدول الضعيفة، فإما أن نُترك للفوضى أو للتقسيم، مع بقاء مواردنا احتياطيًا للكبار.
ما يعزز خطورة المشهد الآن هو التصعيد في جبهة لبنان، وتبني الحكومة اللبنانية رسميًا مسار نزع سلاح حزب الله، مصطفة بذلك صراحة مع إسرائيل في مواجهته. هذا تطور بالغ الخطورة، لأنه يلغي اتفاق الطائف تمامًا، ويصب مباشرة في مصلحة إسرائيل، ويفتح الباب لحرب أهلية جديدة في لبنان، قد تنتهي بتقسيمه أو تدميره ليلتحق بالقائمة السوداء.
وفي غزة، يتجلى البعد الأخطر لهذه الصفقة؛ إذ تُنفَّذ سياسة الإبادة الشاملة: تدمير المنازل والبنية التحتية، قطع المياه والكهرباء، تجويع السكان، استهداف المستشفيات، وتهجير قسري يهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية واحتلال الأرض بلا عودة، تمهيدًا لتنفيذ مشروع الطريق الذي يبدأ من الهند وينتهي عبر مركزه في إسرائيل، مخترقًا غزة التي سيتم احتلالها وتفريغها، إلى موانئ المتوسط ثم أوروبا.
والمريب – والمحير في الوقت نفسه – أن ما يجري في غزة اليوم يُقابل بموقف بارد من الجامعة العربية ومجلس الأمن. ولا يغيب عن الفطنة مقارنة هذه المواقف بما حدث إبان غزو العراق للكويت؛ وقتها تحركت الآلة الدولية بسرعة وصرامة، وتم إخراج صدام حسين من الكويت في غضون ساعات.
في تقديرنا، أن هذا الصمت لا يمكن أن يكون عجزًا بقدر ما هو تعبير عن قبول ضمني – قصير النظر – بالمسار الجاري.
السودان بدوره لم يكن بمنأى عن هذه المعادلة، بل تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات، حيث تُراق الدماء بغزارة وبدون مبالاة، وتُصنَّف المأساة عمدًا – من قبل من يديرون الأزمة – على أنها حرب أهلية أو صراع داخلي، بينما هي في الحقيقة ميدان لاختبار وإدارة الترتيبات الدولية الجديدة.
وفي كل ذلك، يبقى الخيط الناظم هو إعادة تقسيم المنطقة، ليس عبر الجيوش فحسب، بل أيضًا عبر تجفيف الموارد أو نهبها هنا، أو إعادة رسم خطوط الممرات المائية هناك. الهدف المرسوم هو تحييد القوى التي يمكن أن تشكل تهديدًا حقيقيًا للهيمنة الأمريكية–الإسرائيلية.
المخرج من هذا المسار يبدأ بالوعي بخطورة ما يجري، وفهم أدوات اللعبة الدولية، والتمرد والافلات من القبضة الغربية، ورفض الانجرار وراء أوهام التحالفات الزائفة، والعمل على توحيد رؤى دول المنطقة للحفاظ على أمنها وصياغة مصالحها المشتركة. ولا يفوتني هنا أن أذكر أن القليل من الضغط أو إظهار العزم على توحيد الجهود كفيل بأن يجعل أمريكا وإسرائيل تعيد حساباتهما وتتراجع ولو إلى حين، ولا أوضح من صورة الرئيس الأمريكي وهو يعلن وقف إطلاق النار في أوج المواجهة بينهم وبين إيران.
أما عندنا في السودان، فلا مناص من رتق الجبهة الداخلية وجمع الصفوف، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عبر تكثيف نشر الوعي، وإدارة حوارات وطنية شاملة لرفض الخلافات الضيقة وخطاب الكراهية، وتشكيل منظومات يقودها خبراء مستقلون بعيدون عن الأجندات الحزبية أو التدخلات الخارجية، تتم بموجبها إعادة هيكلة الدولة على أسس فيدرالية عادلة تضمن الحقوق وتوزع السلطة والموارد، وتربط القضية السودانية بالنضالات العربية والأفريقية ضد مشاريع التقسيم الجديدة.
إن لم يحدث ذلك بإصرار ووضوح، فإن ما يجري الآن لن ينتهي إلا بإبادة شعوبنا واستبدالهم بآخرين. إنها ببساطة معركة وجود: نكون أو لا نكون.
12 أغسطس 2025