سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: لغز سد النهضة ومنطقة الفشقة.. من الذى يخطط لانتزاع الفشقة؟

محمد الحسن محمد نور يكتب: لغز سد النهضة ومنطقة الفشقة..
من الذى يخطط لانتزاع الفشقة؟

ظلّت منطقة الفشقة، بمساحتها البالغة نحو 1.2 مليون فدان من الأراضي شديدة الخصوبة، على هامش الاهتمام الرسمي في الخرطوم لعقود. البعد الجغرافي (650 كيلومترًا عن العاصمة) وانعدام البنية التحتية وغياب الطرق والخدمات، جعلها شبه معزولة عن بقية السودان، خاصة خلال موسم الأمطار (تقرير وزارة الزراعة السودانية، 2017).

في إطار ما سُمّي بمشاريع الزراعة الآلية، منحت الحكومات السودانية المتعاقبة مساحات واسعة من أراضي الفشقة لمزارعين محليين، لكن دون أي دعم فني أو مالي، ما دفع الكثيرين إلى تأجير أراضيهم لمزارعين إثيوبيين طلبًا لعائد سريع (المساحة الزراعية للفشقة – إحصاءات ولاية القضارف، 2015).

ظل هذا الوضع قائمًا حتى عام 2018 حين تحوّل المستأجرون الإثيوبيون، بدعم مباشر من حكومة أديس أبابا، إلى مليشيات مسلحة تُعرف بـ”الفانو”. وثائق مسربة من شرطة أمهرة (الوثيقة الإثيوبية رقم 337/ 2023، موقع إثيوبيا إنسايدر) كشفت عن توريد أسلحة لهذه المليشيات مقابل طرد الملاك السودانيين بالقوة. بالتوازي، شرعت الحكومة الإثيوبية في شق الطرق وبناء مجمعات سكنية، واعتبرت هذه المليشيات “لجان دفاع شعبية”، في أسلوب يتطابق مع ما فعلته العصابات الصهيونية في فلسطين قبل 1948 (الأرشيف البريطاني، وثائق فلسطين، 1946).

مع اندلاع تمرد التيغراي ضد الحكومة الإثيوبية في نوفمبر 2020، استغل الجيش السوداني انشغال أديس أبابا وبدأ عملية عسكرية في منتصف ديسمبر من العام نفسه، استعاد خلالها معظم أراضي الفشقة (بيان القوات المسلحة السودانية، 20 ديسمبر 2020). وفي يونيو 2022، أعلن استعادة السيطرة على “الفشقة الكبرى” وتحرير مستوطنة برخت (وكالة سونا، 28 يونيو 2022). لكن التحرير لم يكتمل. ففي 2024، توقف الجيش عند المناطق التي شيد فيها الإثيوبيون بنى تحتية، وهو ما أكدته تصريحات عضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا، مشيرًا إلى ضغوط إماراتية حالت دون استرداد كامل الأرض (قناة الجزيرة مباشر، مقابلة 14 فبراير 2024).

في هذه الأثناء، كانت أزمة سد النهضة تأخذ مسارًا متشابكًا مع نزاع الفشقة. ورغم أن الرواية الإثيوبية الرسمية تؤكد أن الغرض من السد هو توليد الكهرباء، فإن موقعه في أقصى شمال إثيوبيا، على بعد 40 كيلومترًا فقط من الحدود السودانية، وغياب مساحات زراعية إثيوبية واسعة أمامه، يثيران أسئلة حول أهداف أخرى (دراسة المعهد الهيدرولوجي الأمريكي، 2021). هذه الشكوك تعززت بتسريبات تقرير “سايت ويك” (ديسمبر 2023) الذي كشف عن عقد سري وُقع عام 2020 بين وزارة الري الإثيوبية وشركة إماراتية، يقضي بتخصيص 7 مليارات متر مكعب من مياه السد سنويًا لري مشاريع في الفشقة مقابل استثمارات إماراتية بقيمة 3.5 مليار دولار.

هذه المعلومات تقلب الرواية الرسمية رأسًا على عقب. فإثيوبيا، التي تصدر بالفعل فائض الكهرباء (البنك الأفريقي للتنمية، تقرير الطاقة 2023)، لم تكن بحاجة لسد بهذا الحجم لأجل الطاقة فقط، بل لتخزين مياه تكفي لري أراضٍ زراعية شاسعة — أراضٍ ليست إثيوبية في الأصل، بل سودانية محتلة. وهنا يصبح السد أداة مائية لدعم خطة استيطانية تمتد جذورها إلى عام 2018، حين بدأ التغيير الديموغرافي في الفشقة تحت غطاء الإيجارات الزراعية.

الإمارات، التي دخلت على خط الأزمة عبر وساطة في مارس 2021، قدمت مقترحًا لتقسيم الفشقة بين السودان وإثيوبيا مع تخصيص حصة استثمارية لها (صحيفة ذا ناشيونال، 5 أبريل 2021)، وهو مقترح قوبل برفض قاطع من الخرطوم. لكن التسريبات اللاحقة أوضحت أن النفوذ الاقتصادي الإماراتي في كل من إثيوبيا ومصر منحها قدرة على التأثير في مسار النزاع، وربما على إعادة تعريف وظيفة السد نفسه.

في مايو 2024، وبينما كان السودان غارقًا في حربه الداخلية، عادت مليشيات “الفانو” المدعومة لوجستيًا من الجيش الإثيوبي لشن هجمات على القرى المحررة. صور أقمار صناعية (ماكسار تكنولوجيز، تقرير يونيو 2024) وتسجيلات اتصالات (تحقيق بيلينغكات، يوليو 2024) أظهرت تحركات عسكرية إثيوبية منسقة، ما يؤكد أن أديس أبابا باتت تتعامل مع “الفانو” كجيش ظل لفرض الأمر الواقع على الأرض.

تسلسل الأحداث — من إهمال الدولة السودانية، إلى الإيجار الزراعي، فالاحتلال المليشياوي، فالتمويل الإماراتي، فاستغلال مياه السد لأراضٍ محتلة — يوضح أن سد النهضة ليس مشروعًا تنمويًا مجردًا، بل أداة استراتيجية لإعادة رسم خرائط النفوذ في القرن الأفريقي، وبالأخص لانتزاع الفشقة من السودان.

وهذه الخطة، التي تحاكي منهجية الاستيطان الصهيوني، تمثل خطرًا مباشرًا على الأمنين السوداني والمصري، في وقت يبدو فيه الصمت المصري أقرب إلى الرضا الضمني، ربما تجنبًا لخسارة ما تبقى من حصتها المائية.

9 أغسطس 2025م

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.