خارج النص
يوسف عبد المنان
ضاعت الفرصة
أضاع أهل شرق السودان فرصة تاريخية للنهوض بمدينتهم، بعد انتقال الحكومة القومية ـ مرغمة ـ من الخرطوم إلى مدينة الثغر لأسباب قاهرة ومعلومة بالضرورة.
لم يستقبل أهل بورتسودان الوافدين بحفاوة، أو حتى بغير حفاوة، بل توجسوا منهم وتبرّموا من وجودهم في مدينة لا تحتفي أصلاً بغريب الوجه واللسان.
وأطلقوا فريقهم الخلوي “شيبه ضرار” ـ وهو رجل يقول ما شاء له من فاحش القول وساقطه ـ وتم توظيفه للإضرار المعنوي بضيوف المدينة. مدينة شهدت تطورًا عمرانيًا هائلًا، من حيث البنيات التي كان أغلبها متهالكًا، فنهضت الاستراحات الحكومية البائسة إلى مصاف الفنادق، وتكفّلت المالية الاتحادية بصيانة وتأهيل مئات الدور والبيوت الحكومية لتليق بموظفي الدولة.
لكن المجتمع البورتسوداني، الذي تسيطر عليه الثقافة البدوية، لم يُعجبه وجود السلطة الاتحادية. وكان يمكنه استغلال هذا الوجود لصالح الشرق، بصيانة طرق المدينة، وإضفاء بُعد جديد على الشوارع والطرقات، وتقديم تسهيلات لكل من يرغب في الاستثمار ببورتسودان. إلا أن الحكومة الاتحادية، وتحت وطأة تلك الضغوط، اضطُرّت لحشر نفسها في مجمع الوزارات البعيد جدًا عن قلب المدينة.
وظل والي البحر الأحمر جالسًا في ظل الحكومة، وهو رجل بلا خيال في التخطيط، ولا رؤية تنموية، كَسلفه “أمير الشرق” محمد طاهر إيلا. بل إن الجنرال الحالي مصاب بعقدة إيلا، وتُكبّله ضرورات التراتبية العسكرية التي تحول دون مخاطبة البرهان، أو الإلحاح عليه بمعاملة بورتسودان كعاصمة فعلية للبلاد، مثل الخرطوم.
فإذا كان الولاة ـ حين كان السودان كامل العافية وسليم البدن والعقل ـ يهاجرون من سنار وحلفا وزالنجي إلى الخرطوم، يطلبون من رئيس البلاد اعتمادات مالية استثنائية لمشروعات تنموية، وكان إيلا يطرق أبواب الخرطوم من أجل تشييد شارع في حي سلالاب، فإن الحكومة الاتحادية اليوم تنام بالقرب من سرير الوالي الجنرال… لكنه يخاف أن يسألها مليار جنيه لصيانة خزان أربعات، أو إعادة تأهيل محطة كهرباء بورتسودان القديمة المتهالكة.
واليوم، تغرق بورتسودان في الظلام، وينعق غراب الخراب في أسواقها، فوق مباني أمانة الحكومة التي تبدو كعجوز أعياها المسير في رمال أروما أو تلكوك.
بدأ وزراء الحكومة مغادرة بورتسودان دون أسف، في عيونهم التي ابيضّت من الرهق، وتركوا المدينة على حالها: بائسة، بلا كهرباء ولا ماء، ولا شوارع إلا تلك التي ما تزال آثار إيلا واضحة فيها، في إقليم لا يحق له بعد اليوم الحديث عن التهميش وضياع الحقوق وضعف المشاركة في السلطة.
لقد مُنِح الشرق مقعدًا في مجلس السيادة، فاختارت نخب الشرق ـ التي تطوف حول البرهان ـ امرأة تُدعى “نوارة”. وليتهم اختاروا الدكتورة “بت مكلي”، إذا كانت القيادة لا تطيق نجومية الناظر “ترك”، بلحيته التي توحي للعلمانيين المتنفذين في المؤسسة السيادية بما لا يروق لهم.
أما الآن، فقد جاء التشكيل بوزير الداخلية من قلب شرق السودان، ومن المقربين للزعيم “ترك”. وبذلك، نال الشرق كامل حقوقه في السلطة. لكنه، بيده، أضاع فرصته في التنمية، حين انكفأ على نفسه، وشغل الناس بـ”شيبه ضرار”، وترك الفرائض، وانشغل بالمستحبات، وأهمل الفرض باسم وجود النوافل.