الخرطوم: رندة بخاري
علاقته مع آل أبو العلا
صرخة ميلاد الفنان أحمد المصطفى الذي تمر الذكرى خمسة وعشرين على رحيله، كانت في عام 1922م في قرية الدبيبة الواقعة شرق الخرطوم وبدأ تعليمه في الخلوة بقريته حيث درس بها مبادئ الكتابة والقراءة وحفظ القرآن الكريم وتعلم الإنشاد الديني، وفي مطلع أربعينيات القرن الماضي انتقل إلى الخرطوم للعمل.
عمل أحمد المصطفى بالخرطوم في وظيفة محصل ثم مديراً بشركة عبد المنعم أبو العلا وخلق علاقة قوية مع آل أبو العلا وخاصة مع الشاعر سعد أبو العلا.
تأثره بعبد الوهاب
أتيحت له من خلال عمله بشركة أبو العلا في الخرطوم فرصة الاستماع كثيراً إلى أسطوانات الأغاني السودانية والمصرية واللبنانية وتأثر في تلك الفترة بالموسيقار المصري محمد عبد الوهاب، ومن السودانيين تأثر بكل من محمد أحمد سرور وعبد الكريم كرومة وفضل المولى زنقار وإسماعيل عبد المعين وغيرهم، وكان يردد أغنياتهم في حفلاته الخاصة.
وعندما أسس الفنان حسن عطية فرقة موسيقية مع بعض أصدقائه انضم إليها أحمد المصطفى حيث تعلم أساسيات العزف على آلة العود بعد أن كان عزفه مقتصراً على الصفارة.
دخوله الإذاعة
وبعد تعلمه العزف على آلة العود بدأ أحمد المصطفى يشارك في إحياء حفلات المناسبات الاجتماعية كحفلات الزفاف وسمعه في إحدى تلك الحفلات حسين طه زكي، أحد المسؤولين بالإذاعة السودانية والذي أعجب بصوته وطلب منه الحضور إلى دار الإذاعة في أم درمان للعمل على إجازة صوته كمطرب تبث الإذاعة أغانيه وكانت أغنية هيام (عيوني هم السبب في أذاي) للشاعر أحمد إبراهيم فلاح أول أغنية سجلها أحمد المصطفى للإذاعة السودانية.
إيقاعات ناعمة
يعتبر أحمد المصطفى أحد رواد الرومانسية في الأغنية السودانية ومن المجددين لأسلوب الحقيبة الذي قامت عليه الأغنية السودانية المعاصرة. وكان له دور بارز في نشر الغناء الوطني الذي قدمه بأسلوب جديد ومتطور جمع فيه بين النص العاطفي وما يتسق معه من إيقاعات ناعمة والنص الحماسي وما يرتبط به من إيقاع قوي. ويستخدم في موسيقاه عدة آلات موسيقية أهمها آلة العود والأكورديون والدربكة.
كبار الشعراء
تنوعت نصوص أغنيات أحمد المصطفى من نصوص تعالج موضوعات عاطفية إلى أغنيات الحماسة والأناشيد الوطنية والإنشاد الديني. وتغنى بقصائد لكبار الشعراء السودانيين أمثال حسين بازرعة و أبو آمنة حامد وعبد المنعم عبد الحي و السر دوليب، وشعراء من الوطن العربي مثل شاعر المهجر اللبناني الأصل إيليا أبو ماضي والشاعر المصري أحمد رامي.
جدد في الموسيقى
عز الدين نجل الفنان أحمد المصطفي كنا قد تحدثنا إليه حول مدرسة والده الفنية ومرور اثنين وعشرين عام على رحيله إذ رحل المصطفى في 30 أكتوبر من العام 1999م.
وقال عز الدين: أحمد المصطفى هو عميد الفن السوداني ورفد سوح الغناء بمجموعة كبيرة من الغناء والموسيقى طوال حياته وأحدث الكثير من التجديد الموسيقي على الأغنية السودانية، ونقل الأغنية من مرحلة الحقيبة إلى مرحلة الغناء الحديث وإسهاماته لم تقف عند الغناء والموسيقى بل كان له كبير الأثر على الحياة الاجتماعية للفنانين إذ انتقل بالفنان من صعلوك إلى أستاذ فكما هو معروف أن الفنان قديماً كان لا يحظى بنظرة احترام من قبل محيطه.
وأضاف عز الدين: الفنان أحمد المصطفى عرف بخلقه الرفيع وباحترامه لنفسه وللجميع واستطاع أن يعكس كل صفاته النبيلة هذه في الوسط الفني.
مجدهم الخاص
البعض يلقي باللوم على ورثة الفنان أحمد المصطفى بمنعهم المطربين من ترديد أغنيات والدهم، دفعنا بهذا السؤال إلى نجله عز الدين الذي أجابنا بقوله: نحن نحافظ على إرث والدنا الفني وكل من يرغب للاستماع إلى أغنياته يجدها عبر قنوات اليوتيوب كما أن الإذاعة الأم وإذاعة البيت السوداني يقدمون أغنياته بصورة مستمرة، وكما صنع أحمد المصطفى ومحمد وردي وغيرهم أنفسهم عبر أغنياتهم إلى أن حققوا النجومية، على المطربين الشباب أن يحذو حذوهم ويعملون على أن يكون لهم إنتاجهم الخاص وألا يبنوا مجدهم عبر أغنيات الغير.
تعدد منافذ الغناء
ثمة اتهامات تلاحق عز الدين المصطفى بأنه منع غيره من ترديد أغنيات والده وفي الوقت نفسه لا يردد إرث والده، عز الدين نفى هذه الأحاديث بقوله: أنا لازلت أغني لكن في ظل تعدد منافذ تقديم الأغنيات قد لا يعلم البعض عبر أي القنوات أطل فمن الممكن أن أكون ضيفاً اليوم على قناة النيل الأزرق وغداً بالتلفزيون القومي وهكذا، وفي ظل هذا التعدد قد يصعب على جمهورك متابعتك إلا في حال أن أحدهم هاتفك بالصدفة وأخبرته أو شاهدك عن طريق الصدفة أيضاً.
ظلم اجتماعي
الناقد الفني سراج الدين مصطفى تحدثنا إليه في ذكرى رحيل أحمد المصطفى، فقال: كلنا نعرف أن الفنان كان يقال عليه (صعلوك).. وكان ذلك التوصيف هو أكبر ظلم اجتماعي كان يعانيه الفنان.. ولكن الثورة المفاهيمية التي حدثت بعد ذلك وتغير النظرة الدونية تلك وانتقالها من مربع عدم الاحترام إلى الافتتان بالفنان.. لا يمكن مطلقاً أن نتجاوز مفجر تلك الثورة العميد الفنان أحمد المصطفى وهو الرجل الذي تعب في أن يجعل للفنان وضعية اجتماعية مميزة ومقدرة، وما كان ذلك ليتأتى لأحمد المصطفى لو لم يكن هو مثالاً حياً يمشي بالخلق الرفيع والغنائية التي تدعو للفضيلة وتعيش هموم الناس وتعبر عنهم وتتوغل في تفاصيل حياتهم، لذلك من البديهي أن يكون أحمد المصطفى هو ذلك الفنان العلامة.
غنائية اتسمت بالمباشرة
ويضيف سراج: فهو بغير اجتهاداته تلك فهو أيضاً كان فناناً له رؤيته الغنائية وأسس لمدرسته الخاصة، فهو عبر تاريخه المضيئ والطويل قدم أغنيات كبار مثلت نقلات مهمة ومحطات لا يمكن غير الوقوف عندها وتأملها ملياً لأن أحمد المصطفى لم يكن فناناً عادياً، فغنائيته اتسمت بالمباشرة والبساطة وفيها الكثير من الانسيابية وهو لما يركن في غنائيته لشعر صعب التراكيب ولا إلى جمل موسيقية معقدة، لذلك كان من السهل هضم غنائيته وقبولها الذي يصل حد المطلق، والوجدان السوداني لا يمكن بأي حال أن يتجاوز أغنيات مثل الوسيم، ما أحلى ساعات اللقا، بنت النيل، يا رايع، طار قلبي، يا حبيبي أنا فرحان، أنا أم درمان ورحماك يا ملاك وغيرها وغيرها من الأغنيات الفارعة التي مثلت بحد ذاتها نقوشاً وحضوراً جميلاً على مر الأيام.
بلا وعي
ولكن هذه الغنائية التي تربعت على وجداننا ردحاً طويلاً من الزمان وسكنتنا حتى النخاع وأطربتنا بشكل شفيف، هي غنائية الآن في مهب الريح وفي طريقها للغياب والكسوف والانحسار عن جيل كامل عاشها وتعايش معها وعن جيل جديد يرى فيها نموذجاً له، وهذا الانحسار الذي ستعانيه أغنيات أحمد المصطفى ليس بسبب أنها أغنيات هشة لا تقوى على الصمود والبقاء ولكن لأن إبنه عز الدين أوقفها من كل الأجهزة الإعلامية المرئي منها والمسموع، وهو بلا وعي يساعد رويداً رويداً في تغييب غنائية والده عن وجدان شعب كامل، وعز الدين الذي حاول جاهداً بأن يكون فناناً له حضور ووجود فشل تماماً في أن يكرس أو يطبع صوته الغنائي الخاص في أذهان الناس، ورغم الأرضية الصالحة التي وجدها والدرب الممهد له بفتوحات والده لم يستطع مطلقاً أن يكون رقماً غنائياً محسوساً ومدركاً.
والخيبات المتواصلة في مسيرته دفعته لمحاولات التكسب من غنائية أحمد المصطفى وذلك بتنشيط قانون الملكية الفكرية والذي يتيح له ذلك باعتباره وأسرته الورثة الشرعيين لأحمد المصطفى، ولكننا رغم ذلك لا نرمي باللائمة كلها عليه، فالأجهزة الإعلامية كلها أذاعات وتلفزيونات تساهم في هذا التغييب لأنها ترفض أن تدفع وتفضل أن تبث الأغنيات مجاناً، ولو حدث أن ورثة أي فنان طالبت بحقوقها يكون الأمر الفوري بإيقاف الأغنيات وذلك بدعوى أن المكتبة الغنائية مليئة ولا تتأثر بغياب صوت أي فنان حتى ولو كان رائداً وحفر عميقاً في الموسيقى.
تحدي غير مبرر
وأبدى الناقد الفني سراج الدين مصطفى خوفه من أن يغيب فنه، وقال: ليس أحمد المصطفى وحده هو الذي سيغيب ولكن هناك العشرات من الفنانين سيكون مصيرهم الانحسار لأن ورثتهم والأجهزة الإعلامية ترفض التواضع على قواسم مشتركة والكل (يركب رأسه) في تحد غير مبرر المتضرر منه هو المستمع، وما يحدث ويدور تتعدد وجوهه ويقودنا للسؤال الكبير عن الملكية الفكرية وعن تثبيتها لمبدأ الحقوق وهذا هو وجهها الجميل ولكنها ذات وجه آخر هو النتوءات والبثور التي طفحت على وجه العلاقة بين المبدعين والأجهزة الإعلامية.