سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: السودان في المنعطف الأخطر

محمد الحسن محمد نور يكتب: السودان في المنعطف الأخطر

وسط معاناة العائدين وضيق المحاصرين والأوضاع التي لا تحتمل أي مغامرة، أقدم رئيس مجلس السيادة على خطوات واسعة لإبعاد عناصر المؤتمر الوطني، شملت إحالة كبار الضباط والنائب العام المحسوبين عليه للمعاش. قرارات صدامية كهذه قد تثير ردود أفعال المتشددين وتعمّق جراح الأبرياء الباحثين عن الأمان واستئناف حياتهم.

منذ اندلاع هذه الحرب، ظل السودان يدور في حلقة من التصدع، وكل قرار غير مدروس ساهم في تعميق الأزمة. أما ما جرى مؤخرًا من تغييرات واسعة، فقد جاء نتيجة ضغوط الواقع الكارثي الذي دفع البرهان إلى لقاء مبعوث الرئيس الأمريكي في سويسرا، بحثًا عن مخرج يجنّب السودان تبعات ما يمكن أن تقدم عليه واشنطن. وفي تقديرنا، فإن ما تم مع المبعوث الأمريكي ـ سواء جاء بضغط أو بتوافق ـ يتسق مع الرؤية المصرية الداعمة لبقاء الجيش عمودًا فقريًا للدولة.

غير أن الأخطر، في ظل ما يحدث الآن بمحيط مدينة الفاشر، أن يكون الاتفاق قد تضمّن ـ ولو ضمنيًا ـ أى ترتيبات تمكّن الدعم السريع من السيطرة على المدينة، إما لتحسين موقعه التفاوضي أو ضمن خطة لتقسيم البلاد…

وفى كل الحالات، فنحن الآن لسنا هنا في موقع الاعتراض على القرارات الأخيرة، بل على العكس، فالسودان يحتاج إلى خطوات جريئة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة. غير أن مثل هذه التحولات الحساسة يجب أن تتم عبر خطوات مدروسة وشفافة ومتفق عليها مع القوى المتحالفة مع الجيش، لأن تجاوزها قد يفجر أزمة جديدة نحن في غنى عنها، ويدفع بما تبقى من الدولة نحو الانهيار الكامل.

والحل، في تقديرنا، ممكن ومتاح، وقد طرحناه مفصلاً في مقالنا بعنوان “من أين تبدأ حكومة إدريس” المنشور بتاريخ 13 يوليو، ونورد نصه هنا: —

(ثانيًا، ملف وقف الحرب وإنهاءها، ولهذا الملف محوران يسيران بالتوازي:

أولهما، إنهاء الحرب عبر التفاوض.

وثانيهما، معالجة جذور المشكلة داخليًا، لأن هذا المحور لا ينفصل عن قضية الحكم واقتسام السلطة والثروة
ولمعالجة هذا الملف الأكثر تعقيدًا، ولتناوله بطريقة سلسة فإننا نرى أن تبدأ الحكومة ـ فورًا ـ بإعلان السودان دولة فيدرالية، ومباشرة التطبيق العملي للحكم الفيدرالي، بمراجعة قوانينه وإقرارها، لا مجرد وعد بها.

ويكون ذلك عبر لجان متخصصة مستقلة تضم كفاءات سودانية مستقلة وخبرات أجنبية محايدة، تضع الخطط اللازمة لتقنين الوضع الفيدرالي، والجداول العملية لتنظيم انتخابات ولائية تبدأ بتعداد سكاني دقيق، وتنتهي بحكومات ولائية فعلية، تُنتدب منها لاحقًا ٣ ممثلين عن كل ولاية لتشكيل المجلس التشريعي القومي في المركز.

هذا الطرح يخاطب جذور المشكلة وينفي مزاعم التهميش، ويؤدي بسلاسة إلى بناء الثقة وتحويل الجماعات المسلحة إلى الانخراط في العمل السياسي وإلقاء السلاح، ومن ثم بناء جيش وطني موحد.

وفي المسار العسكري، لا يمكن أن تستمر الحرب إلى ما لا نهاية تحت ذريعة التفاوض مع المليشيا. فالواقع ـ رغم تعقيداته ـ يؤكد حقيقة مركزية لا يجوز القفز فوقها: الجيش السوداني، رغم كل ما يُثار حوله، يبقى هو المؤسسة الرسمية، ولا يجوز بأي حال من الأحوال وضعه على طاولة تفاوض واحدة مع جماعة مسلحة تمردت عليه (مهما قيل من الحجج)، ولا يمكن مساواته بها من حيث المشروعية.

وفى تقديرنا أن الدعوات للتفاوض مع المليشيا تعني في حقيقتها أن تقف الحرب لتبدأ من جديد، وهذا يعني ضمنًا استمرار الحرب إلى ما لا نهاية ما دامت المليشيا تحتفظ بسلاحها وتتمتع بالدعم الخارجي.

لهذا، فإن الطريق الأكثر واقعية لوقف الحرب هو فتح قنوات التفاوض المباشر مع داعمي هذه المليشيا: الولايات المتحدة الأمريكية، ودولة الإمارات العربية المتحدة. تُقدّم الحكومة عرضًا شجاعًا لتأمين مصالحهم المشروعة، وتشجيعهم على الاستثمار في السودان ما بعد الحرب، مقابل وقف دعم التمرد (والمساهمة في تفكيكه) وضمان وحدة البلاد، وعدم المساس بسيادتها.

وحتى تكتمل المعادلة وبناء الثقة وتوحيد الجبهة الداخلية، لا بد من مخاطبة حزب المؤتمر الوطني مباشرة، دون التفاف أو شيطنة. باعتباره رقمًا فاعلًا في الساحة الاجتماعية والسياسية، لا يمكن شطبه أو تجاوزه.

تُدعوه الحكومة وتصل معه لاتفاق ملزم بعدم المنازعة خلال الفترة المحددة زمنيًا، وتؤكد في ذات الوقت عدم تمسكها بقرار حرمانه من العمل السياسي، عبر إصدار مرسوم من الحكومة يقضي بشرعية مزاولة الحزب لنشاطه السياسي، وأن المحاسبة ـ حين تحين ـ ستطال الأفراد الذين أفسدوا، لا الحزب كتنظيم.

ويُطلب من الحزب أن يسهم في تقديم الذين أفسدوا للعدالة طوعًا، حتى يُثبت جديته ويكسب شرعية أخلاقية جديدة.

ونحن إذ نتقدم بهذه الرؤية من خلال هذا المقال الصحفي فإننا نأمل أن تسهم في تثبيت أقدام الحكومة التى يجرى تشكيلها لتجاوز هذه البداية الحرجة.

إن هذه الرؤية ما زالت صالحة وهى اليوم أكثر مواكبة من أي وقت مضى، وهي التي كان ينبغي أن تُبنى عليها التحولات الجارية. فالطريق إلى إنقاذ السودان لا يمر عبر الإقصاء والتصفيات، بل عبر التوافق العاقل على حلول شجاعة ومدروسة. وأى تحرك غير ذلك لن يقود إلا إلى انفجار جديد، لن ينجو من نيرانه أحد.
قليل من الحكمة يجنبنا أهوالًا لا طاقة لنا بها.. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

٢٦ أغسطس ٢٠٢٥م

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.