عمار العركي يكتب: خبر وتحليل.. السيادة الإعلامية في مواجهة نفوذ الإعلام الخارجي: هل تملك الدولة قرارها في إدارة الإعلام؟
خبر وتحليل
عمار العركي
السيادة الإعلامية في مواجهة نفوذ الإعلام الخارجي: هل تملك الدولة قرارها في إدارة الإعلام؟
▪️لم يكن الجدل حول إغلاق قناة الشرق في السودان مجرد قرار إداري، بل كان اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الدولة على فرض سيادتها الإعلامية، وحماية أمنها القومي من الاستهداف الخارجي، ومدى صلابتها في حماية قراراتها السيادية. غير أن المفارقة الكبرى لم تكن في القرار ذاته، بل في الطريقة التي تم التراجع بها عنه. فبينما صدر قرار الإغلاق على لسان وزير الإعلام شخصيًا، جاء قرار رفع التجميد عبر موظف أدنى درجة، بناءً على لقاء شكلي وإجرائي مع القناة، مما يثير أسئلة جوهرية حول طبيعة هذا التراجع ومدى استقلاليته، ويضع علامات استفهام حول مدى نفوذ الإعلام الخارجي في البلاد، خاصة حين يكون هذا الإعلام مملوكًا لدول شديدة الحساسية في علاقتها مع السودان، مثل السعودية.
من يقود القرار الإعلامي؟
▪️عندما صدر قرار إغلاق القناة، كان وزير الإعلام في الواجهة، ناطقًا به، متحدثًا ومدافعًا عنه بقوة، ورافعًا له إلى مرتبة “القرار السيادي” الذي يتعلق بصيانة وحماية الأمن القومي، وكأنه أمر محسوم لا يقبل المراجعة أو التراجع. ولم يترك الوزير الباب مواربًا لأي احتمال مستقبلي، ولم يتحسب لسيناريو التراجع. ثم فجأة، عند رفع التجميد، غاب الوزير تمامًا عن المشهد، ليُترك الأمر لموظف أقل درجة ليعلنه، مما يفتح الباب لتساؤلات حتمية:
▪️ لماذا لم يخرج الوزير نفسه ليعلن التراجع كما فعل عند الإغلاق؟ مهما كانت مبررات هذا التراجع، كان من الضروري أن يظهر الوزير أو الناطق الرسمي ليبرر التغيير في الموقف، لا أن يغيب عن مشهد هو من رسمه ومنحه كل هذا الزخم.
▪️ هل فُرض القرار على الوزارة من جهة عليا، فتم تكليف موظف بتنفيذه لتجنب الإحراج؟ غياب الوزير يطرح احتمال أن التراجع لم يكن خيار الوزارة، بل جاء بضغط خارجي أو داخلي، مما استدعى تجنب ظهوره العلني في القرار.
▪️ إذا كانت القناة قد ارتكبت مخالفات واضحة كما قيل عند التجميد، فهل قدّمت التزامات خطية بعدم تكرارها؟ أم أن الوزارة وجدت نفسها في موقف قانوني ضعيف وتراجعت دون شروط؟ إن كانت الوزارة مقتنعة الآن بأن القناة لم تخالف، فهل ستعتذر عن قرارها السابق؟ أم أن الأمر يتعلق بحسابات سياسية وإملاءات لا علاقة لها بالمهنية أو القوانين المنظمة للعمل الإعلامي؟
السيادة الإعلامية بين التراجع والتنازل
▪️ يُثير هذا التناقض في القرارات قلقًا بالغًا حول مدى استقلالية القرار الإعلامي، ويطرح تساؤلًا أخطر: هل أصبحت الدولة عاجزة عن التحكم في سيادتها الإعلامية أمام نفوذ القنوات الخارجية؟
▪️ إن التراجع السريع عن قرار كان يُسوّق على أنه يستند إلى أسس قانونية وأمنية متينة، يوحي بأحد احتمالين: إما وجود ضغوط خارجية قوية فرضت على الوزارة تغيير موقفها، أو أن آلية اتخاذ القرار نفسه تعاني من اضطراب واضح، حيث يتم التسرع في اتخاذ قرارات حاسمة دون تقدير العواقب، ثم التراجع عنها بشكل يضعف هيبة الدولة ويجعلها عرضة للمزيد من الاختراقات.
ما الذي تغيّر بين القرارين؟
▪️إذا كان إغلاق القناة قد استند إلى تجاوزات واضحة، فالسؤال الأساسي: ما الذي تغير حتى يتم رفع التجميد؟ هل قامت القناة بتصحيح مسارها وتقديم ضمانات بعدم تكرار المخالفات؟ أم أن القرار جاء دون شروط واضحة، مما يعني أن المشكلة لم تكن في القناة، بل في طريقة تعامل الدولة مع الملف الإعلامي؟ إذا كانت الوزارة قد أخطأت في التقدير، فلماذا لم تقدم تفسيرًا رسميًا للرأي العام؟
نفوذ الإعلام الخارجي وسلطة القرار الوطني
▪️ يُعيد هذا الحدث تسليط الضوء على قضية أكثر عمقًا: إلى أي مدى تملك الدولة القدرة على ضبط المشهد الإعلامي الوطني في مواجهة النفوذ المتزايد للإعلام الخارجي؟
▪️ حين تكون القناة المعنية مملوكة لدولة شديدة الحساسية في علاقاتها مع السودان، مثل السعودية، يصبح التراجع عن القرار أكثر تعقيدًا، لأنه يضع الدولة أمام معادلة صعبة: كيف يمكنها الحفاظ على حساسية العلاقات الثنائية دون التفريط في سيادتها الإعلامية؟
▪️ إذا كانت الدولة قد رأت في تغطية القناة تهديدًا للأمن القومي، فلماذا تراجعت بهذه السهولة؟ وإذا لم تكن هناك مخالفة، فلماذا صدر قرار الإغلاق من الأساس؟ هل نحن أمام سياسة إعلامية مرتعشة، أم أن هناك ضغوطًا غير معلنة جعلت القرار الأول مجرد خطوة تفاوضية؟
خـلاصـة القـول ومنـتهـاه:
▪️ الرسالة التي يرسلها هذا التراجع السريع هي أن السياسة الإعلامية في السودان غير مستقرة، وأن القرارات التي يُروّج لها على أنها “حماية للأمن القومي” قد تكون في الواقع خاضعة لمساومات وضغوط غير معلنة. وهنا تكمن خطورة الأمر، إذ أن التذبذب في المواقف يضعف هيبة الدولة، ويمنح الإعلام الخارجي شعورًا بأنه قادر على فرض أجنداته دون رادع.
▪️ إذا استمرت هذه الحالة من التخبط، فسيظل الإعلام السوداني ساحة مفتوحة لتجاذبات داخلية وخارجية، ما لم يتم وضع رؤية واضحة لضبط هذا الملف وفق معايير تحفظ المصلحة الوطنية دون ارتباك أو تردد.