عمّـار العركي يكتب: خبر وتحليل.. السودان وتركيا من 15 أبريل إلى 15 يوليو: انقلابان ودروس في السيادة والبقاء
خبر وتحليل
عمّـار العركي
السودان وتركيا من 15 أبريل إلى 15 يوليو: انقلابان ودروس في السيادة والبقاء
▪️ في سياق برقية التهنئة التي بعث بها رئيس مجلس السيادة الإنتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمناسبة “يوم الديمقراطية والوحدة الوطنية”، تبرز دلالات تتجاوز الإطار البروتوكولي التقليدي نحو مساحة سياسية رمزية، تفتح الباب لمقارنة لافتة بين تجربتين انقلابيتين متباعدتين جغرافيًا، لكنهما متقاربتان في بنيتهما: انقلاب تركيا في 15 يوليو 2016، وانقلاب السودان في 15 أبريل 2023. كلا الحدثين انطلق من داخل المؤسسات النظامية، وهدد صلب الدولة، غير أن النتائج كانت متباينة جذريًا، بما يكشف عن عمق الفارق في طريقة التعاطي، واستعداد الدولة، واستجابة الشعب.
▪️ فعلى الرغم من أن محاولة الانقلاب في تركيا انتهت خلال ساعات قليلة بالفشل، فإن الانقلاب في السودان تطور سريعًا إلى حرب مفتوحة ما تزال تدور رحاها حتى الآن، ما يدفع إلى تأمل الفروقات والسياقات التي أفضت إلى هذا الاختلاف الحاد في المآل.
▪️ من أبرز أوجه التشابه أن كلا المحاولتين لم تأتيا من خارج الأجهزة النظامية، بل خرجتا من أطراف متموضعة داخل الجسد الأمني والعسكري الرسمي. ففي تركيا، كانت الخلية الانقلابية تتألف من ضباط وجنرالات محسوبين على ما يُعرف بـ”الكيان الموازي” التابع لجماعة غولن، وقد نجحوا في اختراق مواقع حساسة داخل المؤسسة العسكرية، لا سيما سلاح الجو والقوات الخاصة، ما أتاح لهم القدرة على المبادأة والهجوم. بالمقابل، جاءت المحاولة الانقلابية في السودان من قوات الدعم السريع، والتي نمت وقويت داخل الجيش، وتحوّلت بفعل التمويل والاستقلالية إلى كيان موازٍ للدولة، فتغلغلت في مفاصلها، وسيطرت على قطاعات رسمية وشعبية، ثم قامت بانقلاب مكتمل الأركان في أبريل 2023، عندما باغتت قيادة الدولة ومقارها الاستراتيجية.
▪️ كذلك، فإن شخصية القادة الانقلابيين في كلا البلدين كانت تحمل سمة الطموح غير المنضبط بالتراتبية النظامية. ففي الحالة التركية، انتمى معظم الضالعين في المحاولة إلى تنظيم سري له أجندة أيديولوجية تتجاوز المؤسسة العسكرية ذاتها. أما في الحالة السودانية، فقد كان قائد الانقلاب شخصية عسكرية شبه مستقلة، نمت خارج النسق العسكرى التقليدي، وقوى سلطته من خلال أدوات اقتصادية ومليشياوية، حتى بات ينازع قيادة الدولة على القرار السيادي.
▪️ ومن المثير أن الانقلاب في الحالتين جاء كرد فعل على إحساس داخلي بالخطر الوجودي : ففي تركيا، استشعرت “الخلايا الغولنية” أن الإجراءات المتخذة ضدها منذ سنوات توشك أن تكتمل، وأن لحظة تصفيتها قد اقتربت، فسعت إلى الانقلاب كخطوة استباقية. في السودان، رأت قيادة الدعم السريع في ترتيبات الدمج المحتوم داخل الجيش السوداني نهايةً محتملة لنفوذها العسكري والسياسي، فقررت أن تتحرك عسكريًا لفرض معادلة جديدة قبل فوات الأوان.
▪️ أما على مستوى البنية السياسية الحاكمة في كلتا الحالتين، فقد برزت التباينات بشكل صارخ. فبينما واجهت تركيا الانقلاب بقيادة سياسية مركزية موحدة، وأجهزة أمنية مخلصة، وتأييد شعبي واسع، بدت الدولة السودانية في لحظة الانقلاب مفككة، ومرتبكة، وتفتقر إلى مرجعية سيادية حاسمة. كما غابت الاستجابة الشعبية المنظمة، في ظل انقسام القوى السياسية، وتذبذب المواقف بين من ينظر إلى الصراع كحرب وجودية على السودان ، ومن يراه مجرد اقتتال بين “جنرالين” او اقتتال بين مكونات السلطة.
▪️ الفرق الأهم بين التجربتين تجسد في سرعة الحسم وحضور الدولة. في تركيا، خرجت القيادة السياسية بسرعة لتخاطب الشعب، وسرعان ما احتشد المواطنون في الشوارع، بينما أعادت القوات المسلحة الرسمية السيطرة على المرافق الحيوية. استطاعت الدولة هناك أن تستعيد زمام المبادرة خلال أقل من 12 ساعة. أما في السودان، فقد غابت القيادة السياسية في الساعات الأولى، ولم تكن هناك خطة طوارئ، ولا منظومة سيطرة إعلامية موحدة، ما جعل العاصمة تتحول إلى ساحة معركة مفتوحة منذ اللحظة الأولى.
▪️ كذلك، لا يمكن إغفال تأثير الدور الخارجي في كلا المشهدين. ففي التجربة التركية، وُجّهت اتهامات واضحة لبعض الدوائر الغربية بالتقاعس أو التساهل تجاه الانقلاب، ولو بالصمت. أما في السودان، فإن المؤشرات على وجود دعم خارجي للمليشيا المتمردة، لا سيما من دولة إقليمية بعينها، كانت منذ اليوم الأول حاضرة ومؤثرة، وأسهمت في إطالة أمد الصراع.
▪️ وفي كلا المشهدين، لم يكن العامل العربي غائبًا. ففي انقلاب تركيا، ساد صمت ملحوظ من بعض العواصم العربية، لا سيما أبوظبي والقاهرة، فيما تحدثت تقارير دولية عن وجود تمويل غير مباشر لبعض الأطراف المعارضة لأردوغان، وتنسيق مع شخصيات محسوبة على الكيان الغولني. أما في انقلاب السودان، فقد بدا التواطؤ العربي ـ ممثلًا في الدور الإماراتي ـ أكثر وضوحًا وفاعلية، من خلال دعم مفتوح للمليشيا، سياسيًا ولوجستيًا، ومحاولات مكثفة لفرضها كأمر واقع عبر محافل إقليمية ودولية، وهو ما يُظهر خيطًا سياسيًا مشتركًا يتمثل في استهداف النماذج الوطنية المستقلة، سواء في أنقرة أو الخرطوم.
خلاصة القول ومنتهاه
▪️ما حدث في تركيا كان تهديدًا وجوديًا للدولة، لكنها استطاعت أن تواجهه كدولة موحدة تمتلك مركز قرار وسند شعبي. أما ما حدث في السودان، فكان تهديدًا مماثلًا، لكنه وجد دولة ممزقة، وبنية سيادية رخوة، ونظامًا هشًا لم يكن يملك القرار أو القدرة على الحسم.
▪️إن مقارنة ما بين ” *يوم الديمقراطية والوحدة الوطنية* ” في تركيا، ويوم *الحرب والانهيار في السودان* ، تكشف ليس فقط الفروقات السياسية، بل تفضح أيضًا حجم الخلل في استيعاب اللحظة، وطبيعة التهديد، وسرعة الاستجابة. وقد تكون برقية البرهان، في طياتها، رسالة احترام لتجربة واجهت الخطر باكتمال الدولة، وإشارة ضمنية إلى درس يجب أن يتعلمه السودان، إن أراد النجاة من دوامة الانهيار.