سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: هل تعود الخرطوم إلى سابق عهدها؟ أم نبدأ بداية جديدة خالية من الأخطاء؟ رب ضارة نافعة

محمد الحسن محمد نور يكتب: هل تعود الخرطوم إلى سابق عهدها؟ أم نبدأ بداية جديدة خالية من الأخطاء؟ رب ضارة نافعة

حين رُفعت راية الاستقلال عام 1956، بدت الخرطوم كمدينة رشيقة، متقدمة في محيطها الإفريقي. كانت صورة زاهية لحاضرة تنبض بالحياة، بنيتها التحتية على نسق أوروبي حديث. الترام يعبر الجسرين العظيمين اللذين ربطا مدن العاصمة الثلاث، الموظفون في أناقة تليق بدولة وليدة طموحة، وسوقان عظيمان ينبضان بالحياة والثراء والتنوع والازدهار. شبكة المياه والصرف الصحي كانت تعمل بكفاءة، الطرقات معبدة ونظيفة، التعليم والعلاج مجانًا. بدت الخرطوم وكأنها تعرف ما تريد، وكان الناس في حالة من الثقة والاعتزاز.

لكنّ تلك الصورة لم تدم طويلًا. بدأ التراجع تدريجيًا، ثم تسارع حتى ابتلع الملامح التي صنعت تلك الذكرى الجميلة. وبحلول العقد الثاني من هذه الألفية، وقبل اندلاع الحرب الحالية، كانت الخرطوم قد تسربلت لباسا مختلفاً وتحوّلت إلى كيان آخر. بدت أسيرة لمغتصب شرس، حزام عشوائي طوقها من كل الجهات، مساكن فوضوية، مستوطنات من اليأس استوطنها النازحون من مناطق الحروب والكوارث، فشكّلوا مجتمعات هامشية منفصلة عن جسد الدولة والقانون. بؤر للفقر والبطالة، ومراكز للجريمة وتفشي الأمراض، تآكل معها الأمن والنظام، وتحولت أطراف العاصمة إلى أوكار من الفراغات العدائية.

وفي داخل المدينة، لم تكن الصورة أكثر إشراقًا. الأسواق تفيض بالضجر، الوجوه شاحبة، الناس يسيرون بلا هدى كمن فقدوا الهدف والاتجاه. بائعات الشاي يتخذن من الأرصفة مستعمرات للتسكع وبيع الشاي والقهوة وأشياء أخرى، متسولون في كل مكان، على الأبواب وعند تقاطعات الطرق وقرب إشارات المرور. ولصوص متربصون ينتظرون الغفلة ليظفروا بهاتفك، أو أي شىء.

انحدار متواصل، لكنّه لم يأتِ من فراغ.

إن جذر مشكلة التمدد الضار الذي أقعد العاصمة عن التطور لم يكن فقط بسبب هذه التجمعات الكارثية، بل يكمن في السياسات الحكومية  التي أفرزتها (غفلة) وأنتجت قبل ذلك ما هو أكثر ضرراً. فالتوسع الحضري، المخطط في ظاهره، والعشوائي في مآلاته، كان السبب الرئيسي في استحالة إنشاء بنية تحتية حقيقية. بدأت الدولة في الستينات من القرن الماضي في إنشاء سكن شعبي في شمال أم درمان (مدينة الثورة) ثم أتبعتها (بالمساكن الشعبية) شمال مدينة الخرطوم بحري، وكان الغرض المعلن هو توفير السكن المناسب لذوي الدخل المحدود واستيعاب الهجرة من الريف،، ولكن الفساد والجهل كانا حضوراً، فامتدت الامتدادات دون توقف أو مراجعة. في كل مرة، كانت الأرض تباع لا تُبنى. لكن لتعوض عجز الميزانية (الحكومية والشخصية)، فصارت الخرطوم تكبر بلا عقل، وتتورم بلا قلب.

بمرور الوقت، تحولت الأرض إلى سلعة، لا إلى حق عمراني. أُلغيت فكرة الدولة الراعية، وحلّ محلها نموذج الدولة الجابية، التي تبيع للمواطن أرضًا جرداء بلا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي، ولا أي شىء وتتنصل من أي التزام بالخدمات. فاضطر الناس إلى حفر آبار فردية (السايفونات)، باهظة التكلفة، لتصريف المياه الصحية أو اتخاذها مراحيض،

أدى ذلك لتلوث مياه الشرب وتفكك بنية التربة وتضرر أساسات المباني، وتفشت الأمراض، وكان هذا في قلب العاصمة، لا في هامشها. فساد الأجهزة زاد الطين بلة، فالأراضي تُباع بالمحسوبية، والموازنات تُنهب، والموظفون يتقاضون رواتب بلا إنتاج، حتى بات الحديث عن مشروع صرف صحي أو شبكة مترو ضربًا من الغباء.

ثم وقعت الطامة الكبرى. نشبت الحرب، فلم تترك شيئًا. دُمّرت المدينة بالكامل، وانهار ما تبقى من منظومتها، لا شوارع ولا جسور. ومباني مدمرة، لا ماء ولا كهرباء ولا شوارع ولا صرف صحى ولا أسواق ولا خبز. وأصبحت الخرطوم أرضاً وبيئة ملوثة بمخلفات الحرب ومرتعا للكلاب الضالة التي تأكل الجثث المتناثرة.

الآن أرى أمنا العزيزة (الخرطوم) ترفع رأسها وهي تحتضر لتقول لنا.

هناك بارقة أمل.

رب ضارة نافعة، الآن تبرز فرصة نادرة قلّما يجود بها الزمن: أن نعيد تخطيط العاصمة من الصفر، ونكسر قيد التمدد الأفقي الذي قتل الأمل في تقديم الخدمات.

دعونا نبدأ بداية جديدة خالية من الأخطاء. الحل أمامنا واضح لا بديل له.

الحل هو أن نبدأ فوراً باستبدال التمدد الأفقي بالتمدد الرأسي، ونوقف فوراً السياسة الإسكانية السابقة.

علينا أن نضع في اعتبارنا أولاً وقبل كل شيء أن العودة التلقائية للسكان قد بدأت بالفعل تحت الضغط الهائل الذي يواجهه المواطن الذي شرد من دياره. إن العودة بهذه الصورة المتعجلة ودون أن يصحبها أي تخطيط، ستعيدنا حتماً إلى ذات المتاهة.

هنا المطلوب ليس مجرد إعمار، بل إعادة تصور شاملة، وعلينا استباق برامج الإعمار المتوقعة برؤية شاملة محكمة، على الدولة أن تقوم فوراً بتكوين أتيام من المتخصصين في تخطيط المدن بذلك.

ولعلنا نقترح أن تعتمد الدولة إنشاء مجمعات سكنية متعددة الطوابق في وسط المدينة، تستوعب كل السكان، كمقترح أساسي للحل: التوسع الرأسي بدلًا عن الأفقي.

إن اعتماد التوسع الرأسي، بإنشاء مجمعات سكنية متعددة الطوابق، ليس ترفًا عمرانيًا، بل هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الأرض، وتقليل تكلفة البنية التحتية، فضلا عن الميزات الاقتصادية العديدة المتمثلة في تمزيق الكثير من الفواتير التي تدفعها الدولة والمواطن، مثل التوفير في رصف الشوارع الطويلة، وفواتير الوقود وقطع الغيار والصيانة، وإنشاء شبكات الصرف الصحي وكثير من المزايا الاقتصادية، فضلاً عن إعادة الكرامة لعاصمة تعبت من السكن العشوائي.

نتطلع إلى توفير بدائل سكنية جذابة وآمنة وعصرية، تُبنى بعد الحرب، وتخصص لفئات مختلفة، مع مساحات خضراء ومراكز خدمات. نحتاج إلى معمار يحترم الإنسان، ويخلق بيئة اجتماعية واقتصادية فاعلة.

إن لم نفعل ذلك اليوم، بعد كل هذا الدمار، فمتى؟

إن لم نستغل اللحظة التي أتاحتها الحرب، فسنكون قد خسرنا الخرطوم مرتين.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.