علي صالح طمبل يكتب: إفادات أسير في معتقلات الدعم السريع..!!
في زيارتي الأخيرة إلى “أم ضوابان” (إحدى أكبر وأشهر مدن شرق النيل) بعد تعافيها من دنس مليشيا الدعم السريع التي أذاقتها الويلات، وسامتها سوء العذاب على مدى سنة ونصف، زرت الشيخ الفاضل صديق الطيب، أحد الدعاة المعروفين بأم ضواًبان وشرق النيل؛ مهنئاً له بأن فك الله أسر أكبر أبنائه المقدام.
أحداث يشيب لها الولدان، ووقائع يندى لها الجبين، رواها المقدام صديق الطيب، تلخص مشاهداته في أسر امتد لستة أشهر في معتقلات المليشيا بسوبا غرب، وارى خلالها الثرى بيديه 169 من الأسرى الذين وافتهم المنية في المعتقلات الرهيبة التي تفيض فيها الكراهية والحقد، وتغيض فيها الإنسانية والرحمة!
معتقلات مكتظة بالأسرى، ليس فيها أدنى مقومات الحياة الكريمة، تُمتَهن فيها كرامة الإنسان، ولا تُراعي فيها أدنى حقوق الأسرى، كأن القائمين عليها لم يقرأوا سورة الإنسان الذي كرمه الله جل وعلا، وحمله في البر والبحر، والتي يقول الله عز وجل فيها: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينَاً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8].
سألت الأسير السابق في معتقلات المليشيا المقدام صديق عن طعامهم في الأسر، فأجاب بأنه وجبة واحدة في اليوم، تأتيهم عند الساعة الثانية ظهراً، مكونة من صنف واحد هو “الكبكي”، يُعطَى في كوب (كوز)، وليس معه طعام آخر، لا خبز، ولا لحم، ولا خضار، ولا فاكهة؛ ولا تتغير هذه الوجبة طيلة فترة الأسر! ولكل أسير كوبان من الماء، لا يزيد عليهما في اليوم كله، فإن سكب أحدهما خطأ لم يُعوَّض بديلاً له!
وأضاف المقدام:
ـ منذ دخولي المعتقل، وحتى خروجي منه لم أذق طعماً للسكر، ولا للخبز، ولم يسمح لي ولا لغيري من الأسرى بأن نستحم!
وهذا يحدث كله رغم أن الإمداد يأتي شهرياً لكل معتقل من المعتقلات، محملاً بالأطعمة والمشروبات، ولكن قادة المعتقلات يبيعونه في الأسواق، ويكتفون بإعطاء الأسير الكبكبي، ليملأوا جيوبهم بالسحت الحرام، دون أن ترق قلوبهم للأسرى الذين نحلت أجسادهم، وبرزت عظامهم، وغارت أعينهم من شدة الجوع والإعياء! كأنهم ليسوا بشراً يستحقون الحياة!
إذا مرض أسير ذهبوا به إلى الطبيب- والطبيب نفسه أسير مثلهم- فقابل المريض، واعتذر له بأنه لا يوجد علاج بالمعتقل، فليس أمام الأسير حل سوى أن يشفيه الله، أو ينال منه المرض حتى يدركه الموت، أو يجعل الله له سبيلاً!
ويضيف المقدام:
ـ رأينا أسرى أصيبوا بإسهال مائي ولم يتلقوا علاجاً، فكانوا من شدة الإعياء لا يستطيعون أن يتقلبوا يمنة ويسرة؛ حتى نخر الدود مؤخرتهم!
عندما يُؤتى بالأسير إلى المعتقل للمرة الأولى، يستغرقون ثلاثة أيام في استجوابه، فيُجلد جلداً مبرحاً لتنتزع منه الاعترافات، وتكون التهم التي تنتظره معروفة بطبيعة الحال: تهمة أنه من الكيزان والفلول أو من الجيش أو الشرطة، وعليه أن يبذل جهده في دفع هذه التهم، وإلا ثبتت عليه، والويل له حينئذ!
ويسترسل الأسير السابق:
ـ بعد المغرب كانوا يمنعوننا من الوقوف، فمن رأوه واقفاً انهالوا عليه ضرباً بالسياط.
وإذا سمعوا صوت جلبة أو ضجيجاً أو شجاراً سألوا: من الذي فعل ذلك، فإن عرفوه عاقبوه بأفظع الشتم وأوجع الضرب، وإن لم يعرفوه وقعوا في جميع الأسرى شتماً وضرباً!
لا يمضي يوم دون أن يموت أسير أو يشرف على الهلاك من جراء الجوع أو المرض أو التعذيب، ومن بقي على قيد الحياة فهو يتوقع حتفه في أي وقت، يعيش بين الحياة والموت، يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت!
ويردف المقدام قائلاً:
ـ تنقلت في عدة معتقلات، وأذكر أنهم في معتقل بمبنى هيئة البحوث الزراعية بسوبا غرب كانوا يأمروننا بتحطيم الدواليب والأسِرَّة الخشبية الفخمة، ليصنعوا منها حطباً يُوقد به طعام الأسرى “الكبكبي”!
من نجا من معتقلات المليشيا التي غابت الرحمة عن قواميسها، وانزوت الإنسانية من أدبياتها؛ فقد كتب الله له حياة جديدة، لكنه رأى بأم عينيه من الأهوال ما تقشعر له الأبدان، ومن الفظائع ما ترتجف له القلوب!
وإن كان الله جل وعلا قد عذب امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فكيف بمن يحبس إنساناً مسلماً فيعذبه ويذله ويهينه، ولا يطعمه ولا يسقيه كما تقتضيه أدنى درجات الإنسانية!
إن دعوات ولعنات الأسرى الذين ماتوا قهراً وكبتاً، أو خرجوا من الأسر منهكي القوى، ودعوات ولعنات الآباء والأمهات والأطفال الذين فجعوا بفقد عائليهم أو فلذة أكبادهم، سوف تلاحق كل داعم ومؤيد ومشارك في هذه المليشيا المجرمة، تلاحقهم في حياتهم شقاءً ومقتاً، وفي قبورهم بؤساً وسخطاً، وسوف يلاقونها في الآخرة عند وقوفهم بين يدي المنتقم الجبار، فيوفيهم أعمالهم، ويجازيهم الجزاء الأوفى.