ليانغ سوو لي تكتب: الصين تُعيد تعريف التنمية.. البيئة قوة إنتاجية وليست عبئًا على الاقتصاد
ليانغ سوو لي تكتب: الصين تُعيد تعريف التنمية.. البيئة قوة إنتاجية وليست عبئًا على الاقتصاد
لطالما بدا الجمع بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة معادلة مستحيلة. فقد أثبتت تجارب التصنيع التقليدية أن التسارع الاقتصادي غالبًا ما يأتي على حساب الطبيعة، في ظل منطق “التلوث أولًا، والمعالجة لاحقًا”.
لكن الصين، وعلى خلاف هذا النمط، تسلك طريقًا مختلفًا. فمسترشدة بمفهوم الحضارة الإيكولوجية، تقدم نموذجًا تنمويًا بديلًا يحوّل حماية البيئة من عبء إلى رافعة اقتصادية، ويضعها في قلب القوة المحركة للنمو بدلًا من اعتبارها هامشًا خارجيًا.
الرئيس الصيني شي جين بينغ شدد مرارًا على أن “اللون الأخضر” ليس مجرد رمز بيئي، بل هو ركيزة أساسية للتنمية المستدامة وتجسيد لتطلعات الشعب نحو حياة كريمة. لم تعد حماية البيئة تُفهم بوصفها مسؤولية أخلاقية فقط، بل أصبحت أداة لتعزيز الإنتاجية وتحقيق الازدهار طويل الأمد. وهكذا، تحوّل مفهوم التنمية الخضراء في الصين من شعار بيئي إلى ركن راسخ في فلسفة التنمية الجديدة، إلى جانب الابتكار والتنسيق والانفتاح والمشاركة .
وهذا التحول لم يبقَ حبيس الشعارات، بل انعكس في مشاريع ملموسة. على سبيل المثال، استعادت بحيرة إرهاي، التي كانت تعاني تلوثًا بيئيًا شديدًا، نقاءها وتنوعها البيولوجي في غضون عقد من الزمن بفضل إصلاح بيئي شامل. النتيجة لم تقتصر على تحسن المنظومة البيئية، بل نشأت قطاعات اقتصادية جديدة كالسياحة البيئية والزراعة العضوية، ما حوّل حماية البيئة إلى محفّز اقتصادي ومصدر لفرص العمل وريادة الأعمال.
على مدى العقد الماضي، دفعت الصين بقوة نحو التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون. وبرزت صناعات جديدة مثل السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، في حين تراجعت الصناعات الملوثة وعالية الاستهلاك. اليوم، تُعد الصين من أبرز القوى العالمية في تصدير المنتجات الخضراء، مثل المركبات الكهربائية، وبطاريات الليثيوم، والخلايا الشمسية.
بيانات السنوات العشر الماضية تشير إلى أن الصين زرعت أكثر من 64 مليون هكتار من الأشجار بين عامي 2012 و2022، وهو ما يمثل نحو ربع الزيادة في الغطاء النباتي العالمي. هذا الإنجاز لم يكن نتيجة عوامل طبيعية، بل جاء ثمرة لتخطيط استراتيجي، وسياسات مدروسة، وتقنيات متقدمة، ومشاركة مجتمعية واسعة.
ومن بين النماذج المبتكرة التي تعكس عمق التجربة الصينية، تبرز آلية التعويض البيئي بين نهر شينآن وبحيرة تشيانداو. إذ تقوم المناطق المستفيدة من المياه النظيفة في المصب بتقديم تعويض مالي للمناطق في المنبع التي بذلت جهودًا لحماية مصادر المياه. هذا النظام لا يعزز حماية البيئة فحسب، بل يشجع على تحقيق توازن بين العدالة البيئية والتنمية الاقتصادية. وقد تم تعميم هذه الآلية في أكثر من 20 حوضًا نهريًا في أنحاء الصين، ما أخرج العمل البيئي من كونه مسؤولية قطاعية إلى كونه نهجًا للتنمية المتكاملة
على الصعيد الدولي، يبرز التزام الصين البيئي ضمن مشاريع مبادرة “الحزام والطريق”. فعند بناء سكة حديد مومباسا – نيروبي في كينيا، أخذت الشركات الصينية في الاعتبار حماية النظام البيئي، من خلال تصميم جسور وممرات لعبور الحيوانات البرية، في مثال حيّ على إمكانية التعايش بين التنمية والحفاظ على الطبيعة.
التنمية الخضراء في الصين ليست تباطؤًا اقتصاديًا، بل تسريعًا بمحرك جديد مدعوم بالقوى الإنتاجية الجديدة النوعية. فهي تعكس التفكير الجدلي القائم على “الحماية أثناء التنمية والتنمية أثناء الحماية”، ما يعزز التوافق بين النمو عالي الجودة والحماية البيئية عالية المستوى. هذا النهج لا يضحي بالاقتصاد من أجل البيئة، ولا بالبيئة من أجل السرعة، بل يسعى لتحقيق مكاسب مزدوجة. هذا التحول يفتح أفقًا جديدًا لفهم مفاهيم مثل “النمو” و”الإنتاجية” و”الرفاه الاجتماعي”.
فطرح الصين لهذا النموذج لا يأتي استجابة عابرة لضغوط مناخية، بل يعكس استيعابًا عميقًا لقوانين التنمية واستجابة استراتيجية طويلة الأمد لتحديات العصر، مثل تغير المناخ، وتراجع التنوع البيولوجي، وشحّ الموارد. وقدمت الصين نموذجًا ملموسًا على أن حماية البيئة لا تعيق النمو، بل تعززه وتوسّع أفقه.
وبالتالي، فإن بناء حضارة إيكولوجية في الصين ليس خيارًا ظرفيًا، بل رهان استراتيجي شامل، يسعى لتحقيق تنمية نوعية قائمة على الإنسان والبيئة، بدلًا من التمسك بمعادلة صفرية بين البيئة والنمو.
الصين، من خلال هذه التجربة، لا تحمي بيئتها فقط، بل تقدم نموذجًا عالميًا للتنمية المستدامة، يُظهر للعالم أن المستقبل لا يُبنى على أنقاض الطبيعة، بل بالتناغم معها. وهذه هي الخلفية الخضراء للتحديث الصيني النمط، وهي أيضًا التزام صادق تجاه مستقبل مشترك للبشرية.
* إعلامية صينية