عادل الباز يكتب.. فيما أرى: حرب القناصين
فيما أرى
عادل الباز
حرب القناصين
1
تغيرت طبيعة الحرب وخاصة في العاصمة الخرطوم، من حرب مدن تسيطر على فضائها الآلاف من التاتشرات التي تخاض على ظهرها المعارك، إلى حرب قناصة. شاهدنا في بداية الحرب ومنتصفها المئات من العربات ذات الدفع الرباعي المدججة بالسلاح (ثنائي ورباعي ودوشكات) وعشرات الجنود على ظهرها، وهي تندفع لمهاجمة الأهداف التي يسعون للاستيلاء عليها، كما حدث في الهجوم على القيادة العامة والمدرعات والاحتياطي المركزي. تغيرت طبيعة تلك الحرب الآن في العاصمة وتحولت إلى حرب يلعب فيها القناصون دورًا حاسمًا.
2
ذكرتني حرب القناصة بالخرطوم برواية ديفيد إل. روبينز، “حرب الجرذان” (War of the Rats) وهي رواية خيالية تدور أحداثها في معركة مدينة ستالينغراد الروسية خلال الحرب العالمية الثانية، وهي واحدة من أشد معارك المدن دموية في التاريخ. تصور الرواية مواجهة نفسية ومعركة قنص شرسة بين قناص روسي (فاسيلي زايتسيف) وقناص ألماني (هاينز ثورفالد). توضح الرواية تعقيدات حرب المدن وقسوتها من خلال التنافس بين القناصين وقتالهما الشرس بين الحواري والأزقة: بيت بيت، زنقة زنقة، شارع شارع. على مدى عامين، يجري قتال شرس بين الألمان والروس الذين اختاروا استراتيجية الدفاع عن المدينة (ستالينغراد) بالحصار وتقطيع أوصال الألمان والدفاع عن مدينتهم بالقتال من المسافة صفر. كما لعبت الثلوج دورًا حاسمًا في المعركة. ترى، هل اتبع الجيش السوداني ذات الاستراتيجية؟ انظر كيف دافع الجيش في بداية الحرب عن مقاره ومواقعه الاستراتيجية وكيف قطع أخيرًا أوصال المليشيا وجعل إمدادها مستحيلاً في كثير من المناطق التي استولت عليها. استراتيجية الروس قادت لاستسلام 91 ألف جندي ألماني بقيادة القائد الفذ جوكوف الذي رفض تنفيذ تعليمات هتلر وأعلن استسلامه للروس. بالمناسبة، الطلاب في الكلية الحربية السودانية يدرسون معركة (ستالينغراد) كنموذج مثالي لحرب المدن.
3
القناصون في حروب المدن يلعبون دورًا حيويًا في تغيير مسار المعارك، نظرًا للبيئة المعقدة التي تتميز بها المدن، مثل المباني الكثيفة والشوارع الضيقة والاختباء المتعدد. كما يتمتعون بأهمية كبيرة بسبب قدرتهم على التأثير النفسي والتكتيكي على العدو، وإيقاع خسائر دقيقة، وعرقلة التحركات العسكرية. يجعلهم ذلك أداة فعالة ليس فقط في المعارك المفتوحة، بل أيضًا في حروب العصابات والحروب غير التقليدية.
4
الملاحظ في حرب الخرطوم أن التقدم السريع الذي قامت به القوات المسلحة في محور أم درمان، وخاصة في الخطوات الأخيرة كان بسبب قلة الأبنية العالية في الطريق الذى سلكته القوات المتقدمة نحو المهندسين وكانت معارك سوق أم درمان ومحيطه من أصعب مراحل القتال، نسبة لانتشار كثيف للقناصة في عمارات السوق.
5
التقدم نحو الأهداف في الخرطوم كان بطيئًا منذ ليلة عبور الكباري باتجاه الخرطوم، والسبب في ذلك هم القناصة، إذ حُشدت العمارات العالية في منطقة المقرن بمئات القناصة والمسلحين بأحدث أسلحة القنص في العالم (Barrett MRAD وغيرها من أسلحة القنص المتطورة التي حصلت عليها المليشيا من فاغنر ومن (الكفيل). تأخر تقدم الجيش في محور الخرطوم المقرن تحديدًا، واستغرق تخليص ثلاث عمارات (عمارة بترودار / كورال / وزين / ومسجد الشهيد) ثلاثة أسابيع، ولا تزال المعارك تدور حولهما.
في بداية هجوم العبور في 26 سبتمبر 2024، تم دفع ثمن باهظ في اللحظات الأولى لعبور الكباري الثلاثة (اقرأ ما كتبه الصحفي الرائع عزمى عبد الرازق) حين تم قنص العشرات من جنودنا البواسل الذين استشهدوا بعد أن تقدموا بشجاعة نادرة للعبور، مع علمهم التام بأن القناصة يترصدونهم من كل الزوايا. المفاجأة التي لم يتوقعها القناصة، وهم يركزون على مداخل ومخارج الكباري، كانت عبور المئات من قوات سلاح البحرية والمجاهدين إلى داخل الخرطوم عبر عشرات اللنشات السريعة التي وصلت إلى الضفة الشرقية للنيل الأبيض فجراً. وانتشر الجنود بسرعة تحت الأبنية العالية المحتشدة بالقناصة، فأصبحوا يقاتلون من المسافة صفر، مما أفقد القناصين ميزة كانت متوفرة لهم في القنص من بعيد، وهي الرؤية الكافية، وخاصة بعد أن تم سحق كل الجنجويد حراس العمارات في لحظات الهجوم الأولى، فلم يعد للقناصة خيار سوى الاستسلام أو الموت في كل المناطق المحررة من غرب المقرن.
6
الآن ما يعيق تقدم القوات في المقرن وشارع النيل ووسط الخرطوم هم القناصة، إذ لم تعد للمليشيات الحشود الكافية من قوات المشاة لتواجه بها زحف الجيش، كما لم يعد الفزع ممكنًا بعد أن تم عزل قوات المليشيا عن بعضها. ولذا أصبح الدخول في مواجهات مباشرة مع قوات الجيش مكلفًا، وخاصة أنها الآن في قمة استعدادها النفسي والبدني مع توفر كل معينات القتال، كما أنه ليس للمليشيات وجنودها وقادتها أدنى خبرات نظرية أو عملية في حروب المدن، وهم أصلاً لا يعرفون المدينة. الآن، قوات الاستطلاع من الجيش ومعلمو الشوارع يصلون إلى أي مكان في الخرطوم دون أن يرصدهم قناصة المليشيا الذين لا يعرفون الطرق التي تسلكها فرق الاستطلاع، ولذا نرى جنود العمل الخاص يتسللون إلى جامعة النيلين والسوق العربي وحتى العمارة الكويتية، ينفذون مهامهم بدقة ويعودون إلى مواقعهم. آخر الصعوبات التي سيجدها الجيش في تقدمه في محور بحري للالتحام بالقوات التي بالإشارة لفتح الطريق للقيادة العامة، سيجدها بسبب القناصة المنتشرين على طول شارع الإنقاذ في أسطح البنايات العالية والمصانع، وصولاً لموقف شندي الذي تم تحديده الآن.
7
الآن هناك ثلاثة خيارات لحسم معركة القناصة في الخرطوم. الأول هو خيار التدمير الشامل للتخلص من القناصة في العمارات، بمعنى دك عشرات العمارات في الخرطوم بالطيران، ليسمح ذلك بتقدم سريع للقوات لإنجاز باقي المهام بعد فك حصار القيادة العامة. ولكن يبدو أن الجيش حتى الآن لا يعتمد هذا الخيار.
الخيار الثاني هو تشديد الحصار المضروب على المليشيا في المناطق التي تعج بالقناصة، بحيث يجبرهم على الاستسلام طواعية، وهو خيار معمول به الآن، لكنه لا يزال غير فعال بسبب أن خطوط الإمداد لا تزال مفتوحة بين وسط وجنوب الخرطوم. الخيار الثالث هو الاستمرار في ذات الاستراتيجية التي يعمل بها الجيش الآن، وهي استراتيجية “الزحف البطئ المحدود” عبر فرق العمل الخاص والمجاهدين للتعامل مع القناصة بصورة مباشرة واستخدام عنصر المفاجأة دائمًا. هذه الاستراتيجية أثبتت نجاعتها في التقدم الذي حدث بأم درمان من سركاب وصولًا لسلاح المهندسين، وبفضلها كذلك حدث التقدم في بحري والمقرن. هذه الاستراتيجية مجربة وفعالة، وخسائرها قليلة وتحصد نتائج جيدة. عيب هذه الاستراتيجية أنها بطيئة وتتطلب زمنًا طويلًا لإنجاز المهام الصعبة والاختراقات. الآن، قيادة الجيش تحاول أن تمزج بين الخيار الثاني (الحصار) والثالث “الزحف البطيء المحدود” بواسطة فرق العمل الخاصة للتخلص من القناصة ومن ثم التقدم للأمام.
8
أيا كانت الخيارات التي سيتخذها الجيش بناءً على معطيات الميدان المتغيرة في ظل حرب مدن أو مدينة ملغومة بالآلاف من القناصة، فإن واجبنا الثقة بقيادة الجيش وكل القادة الميدانيين المستنفرين والمجاهدين الذين يعملون في إطار خطة محكمة يعرفون ترتيبها ومتطلباتها، ويحققون نجاحات على الأرض يوميًا. فمن الأفضل أن نتحلى جميعًا بالصبر، وكلنا ثقة بأنهم في النهاية سيحققون النصر على الميليشيا وقناصتها وكفلائها. والله غالب على أمره.