سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: متى نفهم؟… وبأى عقلية ؟؟

محمد الحسن محمد نور يكتب: متى نفهم؟… وبأى عقلية ؟؟

لكل داء دواء يُستطبّ به،

إلا الحماقة أعيت من يداويها.

إذا لم نتعلم من هذا الخراب كله، ومن الدمار المستمر الذي تفرزه الحرب يوميًا، وإذا لم تغيّرنا المآسي والكوارث، فمتى سنتعلم؟ وكيف سنرتقي؟

إن عدنا بعقليتنا القديمة نفسها، لنمارس الممارسات القديمة نفسها، فهذا يعني أن الحرب لم تنتهِ بعد. حربنا ليست كسائر الحروب؛ ليست قتالًا ينتهي بوقف إطلاق النار، بل صدمة حضارية وامتحان وجودي لاستعادة الوعي. إما أن نفيد منها، أو نبقى أسرى نتائجها إلى الأبد.

ما نراه اليوم في الخرطوم يؤكد أننا لم نتعلم بعد. أدمغتنا لم تتأثر إيجابًا بالدمار الذي عمّ البلاد، ولا بالمعاناة التي أنهكت الناس، ولا بالخراب الذي بدأ أصلًا من خمول العقول وضعف الرؤية، قبل أن يتحول إلى أنقاض على الأرض.

السلطات تتحرك الآن عشوائيًا: تزيل العشوائيات، تنظم الأسواق، تحارب الفوضى التي خلّفتها الحرب. لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا:

ماذا تفعل؟ وكيف تفعل؟ وماذا سيحدث بعد أن تفعل؟

هنا مربط الفرس.

الخطأ المتكرر في إدارة الدولة يعود من جديد، تعيده الوجوه ذاتها والعقليات ذاتها، وكأن شيئًا لم يكن. وكأننا «يا بدر لا رحنا ولا جينا».

نعم، لا بد من إزالة العشوائيات. لكن الإزالة التي لا تسبقها خطة واضحة تحدد البدائل ستظل عملية قمعية هدفها التخلص من السكان مؤقتًا، لا استيعابهم وتوظيف طاقاتهم. تلك الطاقات الهائلة التي ستُهدر اليوم، ستنفجر غدًا في وجه الجميع، ولا يعلم مداها إلا الله.

إزالة البسطات وطرد الباعة المتجولين دون بدائل لا ينظم السوق، بل ينقل الفوضى من الشوارع إلى الأزقة. التنظيم الحقيقي يحتاج تخطيطًا اقتصاديًا واجتماعيًا متكاملًا، وإشراك الناس في الحل بدل معاملتهم كعقبة.

والأسر التي طُردت من مساكنها الآن – وليس غدًا– رسمت لنا فصلًا جديدًا من المأساة الصامتة. أين ذهبت؟ هل لجأت إلى القرى المجاورة؟ وإن فعلت، فماذا حدث هناك؟

الواقع يقول: نقلوا أزماتهم إلى مجتمعات لم تتعافَ بعد من آثار الحرب، فاختلطت المأساة بالريبة، وتمددت البؤر الهشة. حملات التنظيم الحالية لم تحل مشكلة، بل خلقت أزمات جديدة في مناطق كانت آمنة.

وملف ترحيل الأجانب المزعوم لا يزال يثير الأسئلة نفسها: إلى أين رحلوا؟ هل تُركوا عند الحدود لمصير مجهول؟ أم عادوا أدراجهم أكثر غضبًا وحقدا؟ هذه ليست سياسة، بل انفعال إداري بلا بوصلة.

الرحمة لا نتنافى مع السيادة، والإنسانية لا تضعف الدولة، بل تقويها حين تكون منضبطة وحكيمة.

أما منظمات حقوق الإنسان التي كانت تملأ الدنيا ضجيجًا قبل الحرب، فقد صمتت الآن وتوارت بخجل، واكتفت بنصف دورها، ربما لأن ملفات أكثر ربحًا شغلتها. لكن غيابها لا يبرر للحكومة العودة إلى الأساليب القديمة.

استبشرنا خيرًا حين أعلن رئيس مجلس السيادة تكوين «حكومة الأمل» مع وعود بإسناد المهام للكفاءات. لكن الحكومة جاءت مخيبة، ورأينا رئيسها وبعض أعضائها يتصيدون الكاميرات ليظهروا وهم يجلسون إلى بائعات الشاي تصنّعًا، للتواضع الذى يخفي وراءه حقيقة الشعور بالنقص.

هذا يعيدنا إلى مقالنا، المنشور في السادس عشر من يوليو 2025 بعنوان «من أين تبدأ حكومة كامل إدريس؟» وقتها قلنا: البداية الحقيقية ليست بإصدار الأوامر من الفوقية، ولكن بتأسيس أجسام متخصصة “تكنوقراط” تمتلك رؤية مدروسة وتعرف كيف ترتب الأولويات وتنفذها.

واليوم نرى «حكومة الأمل» تمارس السلطة كأفراد يبحثون عن النجومية، لا كوزراء دولة مؤسسات: «فهذا يوجه بكذا وذاك يوجه بذاك»، لا تخطيط ولا متابعة ولا إنجازات حقيقية على الأرض، وكأن الدمار الذي جرف كل شيء لم يكن كافيًا لإحداث التغيير في وعيهم أو أساليبهم.

الخرطوم لم تعد تحتمل قرارات مرتجلة، ولا مناص من إحلال عقول جديدة تقود عملًا مؤسسيًا مدروسًا. لإدارة الوضع الراهن وما بعد الحرب، فالمسألة ليست إزالة أنقاض فحسب، بل إعادة بناء للوعي.

وأما دون ذلك، فلن تُبنى الخرطوم، ولن يُبنى السودان، ولن نجني سوى المزيدًا من الخراب.

فمتى نفهم؟

9 نوفمبر 2025

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.