سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: المثلث الحدودي والزوايا الحرجة.. قراءة استراتيجية في المواقف الإقليمية والدولية من حرب السودان

محمد الحسن محمد نور يكتب: المثلث الحدودي والزوايا الحرجة.. قراءة استراتيجية في المواقف الإقليمية والدولية من حرب السودان

في أقصى غرب السودان، عند نقطة التقاء الحدود مع ليبيا وتشاد ومصر، يقع مثلث جغرافي يبدو في الظاهر مجرد صحراء قاحلة، لكنه في الحقيقة واحد من أكثر المواقع حساسية في الخارطة الإقليمية.

هذه المنطقة المفتاحية تمثل عقدة مواصلات غير رسمية تمر عبرها شبكات تهريب السلاح والمهاجرين والوقود والذهب. من يسيطر عليها يملك القدرة على خلق طرق إمداد مستقلة، والوصول إلى عمق ليبيا وتشاد دون المرور بالمراكز التقليدية في دارفور أو شمال كردفان.

السيطرة على هذا المثلث ليست توسعًا جغرافيًا فحسب، بل ورقة ضغط إقليمية ومكسب استراتيجي كبير، يعيد رسم معادلات النفوذ في المنطقة. ولذلك لم تكن خطوة قوات الدعم السريع بالتحرك نحوه في يونيو 2025 مجرد مبادرة عسكرية، بل تحرك مخطط له ومحسوب بدقة، ونفذ بتنسيق غير معلن مع أطراف إقليمية ودولية. انسحب الجيش السوداني بصمت من المثلث، ثم أعلن أنه أخلى المثلث، ولم تُبدِ مصر أي اعتراض، والتزمت الصمت أيضاً.

وعلى الرغم من أن المعركة قد وصلت إلى حدودها مباشرة، وعلى الرغم من العداء المعلن بين القاهرة والدعم السريع،  التزمت مصر الصمت ولم يذكر أحد أسر الجنود المصريين في قاعدة مروي العسكرية، ولا اتهام الدعم السريع لمصر بالتدخل ودعم الجيش في معركة جبل موية، وإطلاقه التهديدات المباشرة لمصر.

ثمة ضجة كانت قد أثارتها وسائل الإعلام المصرية المعارضة ووسائل التواصل الاجتماعي حول زيارة مفاجئة وغامضة قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الإمارات العربية المتحدة قبيل استيلاء الدعم السريع على المثلث، ما أثار التكهنات حول احتمال وجود ترتيبات سبقت العملية.

الإمارات، الحليف الأبرز لحميدتي، لعبت على الأرجح دورًا أساسيًا في إنجاح العملية، بينما وقفت مصر موقف المتفرج، ربما خشية من تعقيد المشهد أو استجابة لضغوط إماراتية.

حفتر، حليف القاهرة في ليبيا، قدم التسهيلات اللوجستية لقوات الدعم السريع، رغم العلاقة الأمنية الوثيقة بينه وبين مصر، ما يدل على أن الحسابات ربما لم تعد أمنية فقط، بل اقتصادية ونفعية أيضًا.

منذ اندلاع الحرب، مالت القاهرة لدعم الجيش السوداني، ليس باعتباره حليفًا استراتيجيًا، فثمة تحفظات مصرية على بعض تحالفات الجيش، ولكن لأن مصر ترى فيه الطرف الذي يمكن التنسيق معه واستثماره لكبح الفوضى على حدودها الجنوبية، وضمان اصطفافه إلى جانبها في ملف سد النهضة ضد إثيوبيا. غير أنها كانت تدرك أيضًا أن رفضها التعامل مع الدعم السريع يهدد مصالحها مع دولة الإمارات ويعرضها لضغط متزايد، ما جعل موقفها يتسم بالازدواج.

دعم سياسي للجيش، وصمت ميداني أمام تقدم خصمه.

في المقابل، مضى الدعم السريع في توسيع علاقاته الإقليمية والدولية. كان حفتر أول المرحبين به من منطلق علاقة نفعية، قائمة على تقاسم العوائد من الذهب والوقود والطرق غير الشرعية.

أما روسيا، فاختارت العمل في الخلفية، وظلت مواقفها من الصراع غامضة ومتذبذبة، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على وجودها في مناطق التعدين من خلال واجهات محلية لبقايا فاغنر، محافظة على استمرار تدفق الذهب وعلى نفوذها غير المباشر.

لم تكن تشاد غائبة عن هذا الترتيب، بل أدّت دور الوسيط المزدوج، فسمحت بمرور السلاح والإمداد للدعم السريع، مع إبقاء علاقتها بالمعارضة التشادية المسلحة مفتوحة، ما يتيح لها هامش مناورة واسعًا في الجوار السوداني المضطرب.

أما إسرائيل، فقد نسجت خيوط العلاقة باكرًا مع قوات الدعم السريع، من خلال شركات متخصصة في التجسس الإلكتروني واختراق الهواتف. التقارير تشير إلى أن حميدتي حصل منذ وقت مبكر على أدوات تقنية مكّنته من تعقب خصومه، والتفوق في ميدان الحرب السيبرانية، وهو ما منح قواته أداة مؤثرة في إدارة الصراع على الأرض.

في هذا السياق، بدت الولايات المتحدة وكأنها تراقب من بعيد، دون أن تتدخل لحسم الموقف. فلم تدعم الجيش بوضوح، ولم تدرج الدعم السريع كمنظمة إرهابية، بل تبنت سياسة إدارة الأزمة لا حلّها. ويبدو أن واشنطن تفضّل أن يبقى السودان في حالة استنزاف، يمنع سيطرة أي طرف منفرد، ويفتح الباب لتسوية سياسية تشكلها لاحقًا على مقاس مصالحها.

وسط كل هذه التحركات، ورغم الضغط الذي شكله الاستيلاء على المثلث، تظل القاهرة هي المستفيد الأكثر هدوءًا. فمنذ توقيع اتفاقية تقاسم مياه النيل في العام 1959، والسودان شريك صامت في ملف مياه النيل، لكن انهيار الدولة وتراجع مشروع الجزيرة ومؤسسات الري جعلا السودان عاجزًا حتى عن استهلاك نصيبه من المياه، مما جعل حصته تصب في صالح مصر مجانًا. فكلما طال أمد الحرب، ترسّخت هذه المعادلة: لا شريك، لا مفاوض، لا منافس.

لكن المسألة لا تقف عند مياه النيل وحدها، ففي ظل الأزمات الداخلية المصرية، من الانفجار السكاني إلى نقص الأراضي الزراعية، تضع مصر عينها على ما يلوح في الأفق من إمكانية التمدد الهادئ جنوبًا. الشريط النيلي شمال الخرطوم بات موضع اهتمام، ليس عبر إعلان سياسي، بل من خلال استثمارات وتوطين غير معلنين، ومشاريع زراعية قد تتحول بمرور الوقت إلى مجتمعات شبه دائمة. فهنا تبدو مصر وكأنها تخطط وتعمل بصمت تحسبًا للحروب القادمة حول المياه. فهنا ما يزال النيل يجري، رغم تهديد سد النهضة. وهنا في شمال السودان يقع الحقل الأكبر للمياه الجوفية العذبة في العالم، والتمدد تجاهه لا يجذب مصر وحدها، بل أطرافًا أخرى أيضًا.

السيطرة على المثلث الحدودي لم تكن مجرد تفصيل في صراع داخلي، بل إشارة واضحة إلى أن الحرب في السودان تجاوزت إطارها الوطني، وأصبحت ساحة لإعادة توزيع النفوذ الإقليمي والدولي.

ولأن الجغرافيا وحدها لا تكفي، فقد أصبح عامل الزمن نفسه جزءًا من المعركة. فكل ساعة تمضي دون استرداد هذه المنطقة الحساسة تمنح قوات الدعم السريع فرصة إضافية لإعادة ترتيب صفوفها، وتعويض خسائرها، وبناء تحالفات أوسع، فضلًا عن تعزيز ترسانتها العسكرية. بل وقد تتيح لها التقدم نحو مناطق جديدة كانت إلى وقت قريب خارج نطاق الحرب، مما ينذر بفتح جبهات إضافية وزعزعة ما تبقى من التماسك الوطني.

وتُعد منطقة جبل العوينات، الواقعة ضمن هذا المثلث، واحدة من أكثر المناطق وعورة في الإقليم، مما يوفر للدعم السريع حماية طبيعية وموقعًا مثاليًا لتأسيس قاعدة عسكرية يصعب استهدافها. وفي مثل هذا الموقع الجغرافي، يصبح من الممكن نصب بطاريات دفاع جوي متوسطة أو بعيدة المدى، وهو ما قد يغيّر موازين القوة بشكل يصعب التنبؤ بعواقبه.

إن استمرار إهدار الوقت، وتوجيه موارد الجيش إلى جبهات أقل أهمية بعد التفريط في المثلث، هو خطأ استراتيجي لا يحتمل المزيد من التكرار. والأسوأ من ذلك، أن شركاء الجيش في المعركة قد انصرفوا عن مواجهة العدو المشترك، وانشغلوا بصراعات جانبية على تقاسم الوزارات والمكاسب السياسية، وكأنهم في وضع مستقر يسمح بمثل هذا الترف. فأي قصر نظر هذا؟

وبينما ينشغل الداخل بصراعاته، يربح الجيران، ويعيد الإقليم ترتيب نفسه بهدوء، دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.