سودانيون

عبيد الطيب “ود المقدم” يكتب: من ثقافتهم وروابطهم الإجتماعية في فنهم الشعبي

عبيد الطيب المقدم يكتب: من ثقافتهم وروابطهم الإجتماعية في فنهم الشعبي

الشاعرة شبعنا الحورابية الكباشية، معجبة بأم نفل من بنات فرقانها ودورها:

(البت يابا عبلوجة البَري ام كونيب

قالب الدّارعو حقّار فوق إمِين قاهريب

شفتو ادلّا نازل فوق سدرها وضيب

حبال الشّم متل ما دروكت لـ مغيب)

الدلالات النفسية والشعورية وثقافة (المُسدار) تدخل بقوة في إسلوبية غنائهن.

الوصف في الربعين الأولين معنوي لا حسّي وله علاقة بالروابط الاجتماعية

عبلوجة الدليل وريّيس وبخاطرها وين ما تمِد دي هنا المعزّة في الدور أو الفرقان للفتاة أي عزيزة في دورها وفرقانها وكذا دونها خرط القتاد

ويوضح ذلك في وصفها بـ(الممنوع)

(قالب الدارعو حقّار فوق إمين قاهريب)

الجزء الايمن من الكور (السرج) ودي تكنيك لتقول ان هذه الحسناء (ممنوعة).

والعلاقة بين البندقية والحسناء بالبوادي علاقة معزة وهيبة عميقة جدا في المعنوي الشامل ومتجذرة.

فالممنوع سطوة في حراسة الابل من النهب والسرقة

والفتاة بالبادية بعفتها هيبة لبنات دورها وفرقانها.

وفي رأيي المتواضع ان فننا الشعبي وخاصة بالبادية خلوده ابداعا وموضوعا لانه (فن مجموعات).

و(روابط اجتماعية).

لاحظوا لهذه البدوية وعمق الثقافة الجمعية واثرها على المشاعر، وبدون مباشرة محاربة للظواهر الوحشية الاجتماعية المنبوذة بالبادية سفيه الفرقان والدكك وجدها في المورد تملأ ريّها وقد كانت تشدو من الريد اللّصم فظن صاحبنا انها صيدا ولكنها افحمته بفصاحة ونباهة صورها الشاعر المفارق في إسلوبيته المطعون الكباشي السليماني:

(سفيه الدكّة قمبر شالو سمح الغاني

عاد مرقتلو عيل….. العرضاني

هو ناغمها منّو اتبلمت زهجاني

وطرتلو النارو تلّت في العلو الفوقاني)

أيضا وردت “العلو الفوقاني”

العرضة هنا عرضة عرض وقيم

لذا لاحظ الفكرة كلها في الربع الاخير

(طردتلو النار تلّت في العلو الغرباني)

اي انت: (سواحي فريق ودكّاك)

فمثلها من عذراى البادية نفلها مسادر الشاب الفالح وشهم الولد البعز بنات دورو بفعل جمعي بدون مباشرة وشوفوني ومعزته لهن بأفعال ومحاربة ظواهر مجتمعية تنعكس عليهن بدون مباشرة ووعظ منه وتوجيه ولقد صورت هذا شاعرتهم ومن غنا الجراري:

(لا بتب ولا بدعّي

ولا قال ليّ اتوعّي

المدخور ليوم الكعّي

صعيد ناس بنّه برعّي)

لاحظوا النباهة والفصاحة في مدحها له:

(لا بتب ولا بدعّي)

ثم اشارتها لنفسها بدون نرجسية:

(ولا قال ليّ اتوعّي)

ومع روعة هذا لكن الاروع حسن تخلصها ومدحها له من ثقافة البادية في الطقّتين الاخيرتين لاحظوا النسق الخفي وعمق مدلول الجملة:

المدخور ليوم الكعّي

صعيد ناس بنّه برعّي)

والربعين ديلا:

(هو ناغمها منّو اتبلمّت زهجاني

وطردلتو النار تلّت في العلو الفوقاني)

هنا تكمن ريدة بنات الدور والفرقان للشاب المفارق في وعيه الاجتماعي لذا نجد المحبة الجمعية (المعزة).

متجذرة في حبهم الجمعي وهنا يدخل الملمح الصوفي بقوة لان عبقريتهم تكمن هنا:

(الكُل اهلك)

ولله درّ هذه الشاعرة:

(بسمع حِس كلابهن

قُت الجووا غيّابهن

الناس التّموا حسابهن

نعل طيبين في رقابهن)

ريدة (بنات الدَّور) للشاب المفارق في وعيه الاجتماعي أهل دورها وفريقها، كأنني أراهم في المخارف والنشوغ، لذا هنا لاحظ شرهة وفرح الفريق كلّة الشايب والعجوز والكواعب والشباب فكل محبته وشرهته تختلف، الأخوات وبنات العم وبنات الدور…. الخ.

عذارى البادية غناهن عميق ووعيهن الجمالي متفرد، شوف غنوة البدوية:

(بسمع حِس كلابهن) عاليه

مع غنوة المطعون عاليه:

(سفيه الدِّكّي قمبر شالو سِمع الغاني

وعاد مرقتلو عيل تتزلّق العرضاني

هو ناغمها منو إتبلّمت زهجاني

وطرتلو النار تلّت في العلو الغرباني)

إذا ربطناها مع غنوة فضل ود زايد:

(الرّيد يا البنيّة نوافل

وفكري معاكي في سنين المحل ديل قافل

ما بتتطارد الجائح عليها السافل

بلا نعلات شبط وعزبا مكلّق وحافِل)

وثقافة البادية وفنها الشعبي

نجد هذه الشاعرة مشتاقة لهؤلاء “الغُيّاب”، لكن حبها لم يكن حب فرد وإنما نجد عمق المحبة بالبادية في حبهم الجمعي، وهنا يدخل الحب الصوفي العميق (حب جماعي) مثله وحب أهل التصوف، يمكني أن أطلق عليها (محبة جمعية) لأن عبقريتهم تكْمُن هنا:((الكل أهلك)) و((الربعة الزينة))

ولأن العاطفة أنثى فنجد محبة بنات الدور لعامر الفرقان والدكك إن على سبيل خشم البيت او الدور كله وكذا للشاب (الكتير) بلغة العمدة حمد محمد حامد مثل الرجل الذي نجد بيته (مورد وحوض) للكل:

(بيتك فيهو الرّدّي

ساهل خريف هِدّي

مو الوكّاي بـ القدّي

وعليه يا الشام ما تحدّي)

وحتى أمثالنا من الأفندية يتندر منهم ايّام الرشايم والرشاش حين لا يجدن بالفرقان الا المدرسين وتلاميذهم:

(اليوت عايطين بزّورهن

قلب الجِن ما بدورهن

حطب السرح بخورهن

والسّاردين فطورهن)

ولا يسلم الفكي الهبّاش الدخيل على ثقافتهم من “لسانهنّ لأنه يتناطا لي “المو معلّق لو”:

(اللّفندي والفكي

كلّو القليب مابي

سيد البزوم بـ تني

عاقر البهتف مي)

(حبّال الشّم مِتِل ما دوركت لـ مغيب)

دي مع جمال اللوحة سرّها في الدلالات النفسية للشاعرة

الزمان خريف والوقت (مغيرب هالك).

في (المُسدار) نجد الفضاء الممتد وحرية الحركة،لذا الخيال يكون نابها والعاطفة متقدة ومتجدد’ووعي الذاكرة يكون حاضرا،وحتى مدامرهم ،أحيانا يعافون حياة الركون بها،وعند بعضهم أقرب لحياة (الحلال والدّيم والدناكيج)، قبل أيّام، ولكنها بحساب (فهقة القلب)

مكالمة مطولة من بدوية شاعرة كأنها (فرح البوش العامر) علي قول شاعرة البطانةأستوقفني جدا ما ختمت به هذه الشاعرة المحادثة معي:

(الأفندي في أبويا…..!!

قلبك بقى عيفة..

قلب حلّال وديم)

هذه الجملة “الفنجرية” من هذه البدوية الشاعرة، أحدثت في نفسي حالة، عبر المعنى الإستدلالي ودلالة الإيحاء (الإيحاء النفسي) يجعل القلب “يتناطا” علي حافة معالقه، لأنني عشت تضاريس هذه العبقرية، عبقرية الزمان والمكان والإنسان.

(سماحة النافلة والربعة الزينة) أعرفها من (الربعة الزينة) ويجسدها عندي الشاعر

المفوّه أُمحمد ودفضل الله ودبلل ودالساني الشهير بالقوقاي، ويكنّى بالقوقاي، لبراعته في كل ضروب الغنا(مربوع/ جالسة/ وتوية وغنا جراري ومطولات) وإن كان بارعا جدا في غنا الجراري، وهذه العبقرية في التعايش، إن “رايمتك” فلا فكاك منها أبدا، ومشايخنا الشناقيط، يسمون الكبابيش (عروق الذهب)، لتفردهم في عبقرية التعايش السلمي، لأنهم أقرب للكفندرالية، الشاعر رابع أهله الربيقات وهم من السماحة بمكان وكذا الفنجرة، وأيّام نشوغ فارقهم في المخارف، وذات صباح خريفي، نيله مد البصر، صاح هاتفا في أسرته:

(أهدموا البيت ودانوا الجمال للشّيل)

الليلة خبارك…!! وراحلين وين؟

ليرد وبسرعة وبفرحة من القلب ومن غنا الجراري:

(البارِح شوف عينِي

لاقيت أهل زيني

حُدب مافيهن فينِي

ولضاض ل الكلمة الشّيني)

غنوة ملانة إبداع ومن مدح البوادي حد الوكاء

أيضا هذه العبقرية، عبقرية (الربعة الزينة) والتراث والتضاريس والنفل السمح، جسدها عندي الرجل الأمّة والشاعر الكوني شيخنا أحمد عبد الله الفرجوني:

(حنان الكِترة لـ السّريحة لـ الزول البعارفو

حناني علي أب عبيرا في الدعاشات كارفو

حنين الفاقِد الودّر جناها مشارفو

وكت ما تلِم وتتكرّف جناها تعارفو)

تأملوا جيدا هذه الغنوة والإسلوب وعمق المعنى في:

(معانقة شجر السُّرّيح لشجر الكتِر) وهو شوكي ووعي الذاكرة في توظيف المثل الشهير

ولاحظوا مدلول معانقة (الكتر الشوكي) والإنسان والكلام الجارح، وحنين التي فقدت فصيلها بمكان سروحها (مُسدارها) “مشارفو”.

حقيقة البدّاوة في الطبع….

يعجبني جدا الوفاء في الحياة.

وتجدني شغوفا بوفاء أهل الجناب سادتنا المتصوفة حتى في طبعهم

تأخذني بعيدا تجليات الشاعر الوفي لإسلوبه ولتضاريسه وبيئته ونمط حياته (وحقله الدلالي)…. إلخ.

ولا يعجبني الشاعر المتصنع، الذي يعبث بلغة أهله.

بدوية تزوجها ابن عمها، وحملتها هوادج العيس، من مضارب ونجوع أهلها بالبادية الغربية، إلى قرية الشّوال (ريفي بارا) ووجدت أهل زوجها أهل زراعة، فحنّت للنشوغ والمخارف، وكبدوية (النشوغ) يمثّل لها الحرية لا بمعناها (السياسي) ولكن حرية الانعتاق من ركون (الحلال والقري والريف) فقالت:

(ناس طوريتي نِصَلَت

قِبيل جِيزتهن غَلَت

العالت بيهن جَلَت

ميعادنا معاهن دَرَت)

(قالو لي حِشّي بلاد

قُت ليهن: بي الجَراد

طَعَن الرقيقة إنقاد

بـ الوادي أبو عَقّاد)

تلقائية وعفوية وبلاتكلف وجزالة اللغة بلا تصنع، “سهلنا الممتنع” والعاطفة المتقدة والاعتزاز بالحياة، ليت الباحثين الأفندية يدركون أن البداوة، نمط عيش يعتز به أهله جدا، هذه البدوية، أبعدها الزواج من دورها وفرقانها ونجوع أهلها، وصديقة الصبا، أنظروا لتفاعلها مع “الزمان” الفصول والإتجاه، هنا وفي دارها الجديدة وقت حش الزرع، وهناك في حياتها الحقيقية، وقت النشوغ والمخارف، والحرية والانعتاق من رهق المدامر وقيدها “المكاكي”

دائما تجدني مهما تكون الصورة الجمالية مدهشة، تعجبني في فننا الشعبي، الدلالات الصوتية والشعورية، والنفسية والأنساق الخفية

مثالا للإنساق الخفية: (طعن الرِّقيقة أنقاد)

تعجبني مثل هذه التعابير ومثل هذا الإسلوب، كلمتان وبإيجاز يجتمع فيهن كل الإبداع والجمال، والحياة المتجددة والمعزة والعاطفة المتقدة والفرح بالحياة مع البطر الرزين، واللغة الشاعرية التي أفتقدناها جدا:

شوف التناغم “قالوالي: حِشِّي بلاد)

(ضعن الرّقيقة انقاد)

في الأولي عافت الركون أوالأستقرار والحش والرتابة والنمط المكرر.

والثانية تحنُّ للحركة والترحال والنشوغ، وهذه المفردة العجيبة “إنقاد”.

لم تقل هساع في مكان واحد، ولكنهم كل يوم”مجددين فيك عفو”

كل يوم في دار وكل يوم في عفو وكل يوم في عضاوة جميلة جدا

ولكن “إنقاد” شاعرية جدا وبها حركة البادية وحسها الشعوري أقوى

من “مجددّين عفو جديد” هذه مباشرة و”إنقاد” غير مباشرة

وأنقاد نرى صورة الظعن ومواهقة العيس، ونعرف أن الرحيل “إتحالا ليهن”، وهنا نتذوق طرب الشاعرة عند وعَي الذاكرة.

وإتنايووا بـ (الوادي أبو عقّاد)

الشاعر النور شيخ إدريس العوني الكباشي:

(الوادي المنيّل وفرعو سايق روبو

أهل البادية رحلوا وقالوا: بتنايوبو

الصاوَل رَفيقُو وهاج مِنسِّم دوبُو

الهِدب أم شلايل كاشه فوق عَرفُوبو)

والغوث ود الشلهمة:

(ولّا أتنايوا بـ الوادي المجازية خُضرتو)

لم تعيب زوجها ولا أهله عندما قالت: (ناس طوريتي إنْصَلَتْ)

راحة وإستقرار ومعزتهم لها، ولكنها تحن لحياة أخرى تجد نفسها فيها

وهذا ما عنته مقطوعة الطاري التي هاتفتني قائلة:

(قلبك بقى قلب حلّال وديم)

بمناسبة “قلبك بقى قلب حلّال وديم”.

*هوامش

السِّنبل هي الروائح اليابسة (محلب/ قرنفل/ صندل…. الخ)

وبعد عجنها وخلطها واضافة الروائح السائلة لها تسمى (مهباب)

أوكما يقول أستاذنا وشيخنا ودالمر:

(كنت آ حلالي فوق سرجو البِظِر ركّاب

وكنت بهجمبو ناس عجّانة المهباب)

طامِح من طُماح أي ترفض المرأة زوجها ،وقديما ميسون الكلابية “طمحت” سيدنا معاوية رضى الله عنه وتركت قصوره وذهبت إلي مضارب قومها بالبادية:

(لبيت تخفق الأرواح فيه/ أحب إليّ من قصر منيف

وبكريتبع الأظعان صعب أحب إليّ من بغل زفوف)

ومثلها الكباشية المفوهة:

(من فوقي ما إتعوّس

شعابي ماسوّس)

(أم رزيم) هي الإبل والجاموس يقصد البقر، وهنا المعنى خارج الجملة الشعرية، ويقصد أن الإبل إذا لمحت البرق تشاشي وترزم وتشوم البروق وتناطرها، وتستيطع أن تصل مناهل القطر مهما بَعُد.

أما (البقر) فعوضه الجاعر مع رفع الضيل والبول!!!

والإبل والبقر بالبادية الغربية مثل النساء الضرّات، وما أروع الشاعر المفوه أُمحمد ود فضل الله ود بلل ود الساني الشهير بالقوقاي يخاطب أبقاره:

(يا أم بوح إتّي سِعرتي

شفت البراق غِيْرتي!!!

داك الزرقن حِرتي

ما بتمشيلو إن طرتي)

*(أم شدوق) الحربة

لويب الكاشرات هي الخيل الأولى في الغارة.

ياخ عيفة من يقف في الألفاظ، ولا يدرس ويتدارس ويتعمق في ثقافة (فننا الشعبي) ومدلول اللفظ وأنساقه المضمّرة (الخفية) ثم يملأ علينا الوسائط تعاسة وبؤس.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.