محمد الحسن محمد نور يكتب: سقوط الفاشر.. كيف نحوله إلى نصر حقيقي؟
رب ضارة نافعة..
من وساطة الرباعية الدولية، مروراً بأوسلو و”سلام الشجعان”، ثم دمار غزة وانتهاءً بالعودة إلى “درب الدموع” والركبة الجريحة تم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وترسخت حقيقة واحدة، فما هي؟
لم يسجل التاريخ يوماً لأمريكا أن كانت وسيطاً نزيهاً في أي نزاع على الإطلاق، فمنذ توقيع ميثاق الأمم المتحدة وحتى الآن، سجل لها تاريخاً حافلاً بأكثر من 40 حرباً وتدخلاً عسكرياً أشعلتها حول العالم، ونشرت ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة، تطوق الأرض بجنودها وعدتها وعتادها الحربي، وهى الوحيدة التى استخدمت القنبلة النووية في العالم، هذا هو ما يفسر حجم الدمار الهائل الذي أحدثته وعدد الدول التي تسببت بانهيارها.
والرباعية الدولية، التي تتبنى دور الوسيط لحل أزمة السودان، كونتها أمريكا من دول ثلاثة متدخلة أصلاً في الشأن السوداني، برئاستها وهي كبيرهم الذي يعرف كيف يدير الدفة.
القصور العسكري.. وحصار طال أمده
أما القصور الكبير الذي كان سبباً للانهيار، فقد جاء من الجيش السوداني نفسه، الذي سمح بحصار المدينة لأكثر من خمسمائة يوم. وعلى الرغم من إقرارنا بعدم اختصاصنا بالشأن الحربي، إلا أن القصور هنا كان واضحاً. فالدفاع الذي يستمر كل هذه المدة في مواجهة مئات الهجمات، لابد له أن ينهار يوماً، وهو ما حدث بالفعل في السادس والعشرين من أكتوبر الجاري. ولا شك أن فك الحصار لا يتأتى إلا بهجوم مضاد يبعد المهاجم العنيد الذي يطول نفسه لمدة تزيد على الخمسمائة يوم، بدلاً عن الشكوى وإنتظار مجلس الأمن الذى صارت قراراته عند المليشيا أرخص من الورق الذى كتب عليه.
إلا أنه، وفي تقديري الشخصي، وبقراءة تصريحات السيد مسعد بولس، مستشار الرئيس ترمب والتي أكد من خلالها بأن “الولايات المتحدة تتعامل مع الأمر الواقع وأنها تحارب نشاط إيران في المنطقة”، فإنه من المرجح – وبعد أن ضمنت قبول الجيش بالتفاوض – أن جهة ما قد قدمت دعماً فنياً للمليشيا بكشف ثغرات دفاعات الجيش وتمكينها من اقتحام المدينة، بغرض رفع سقف الدعم السريع التفاوضي.
ومن قبل ذلك، فقد مثل استيلاء المليشيا على المثلث الحدودى الواقع بين ليبيا ومصر والسودان، أبلغ الضرر على الجيش السودانى حيث أتاح الفرصة كاملة للميليشيات لتعزيز خطوط امدادها عبر ليبيا وتشاد، وإدخال أسلحة حديثة وأنظمة دفاع جوي متطورة، مما حدّ من فعالية سلاح الجو السوداني الذي لطالما مثل العمود الفقري للجيش في هذه الحرب.
الولايات المتحدة.. إدارة الأزمة لصالح الميليشيات
لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تدير الأزمة طوال الوقت، معلنة حيادها المزيف، ومساواتها بين الجيش الوطني وميليشيا الدعم السريع، وفرض العقوبات على طرفي النزاع “كما تزعم”. إلا أن المراقب يرى بوضوح معاداة الجيش السوداني ومحاولات وصمه بما تقوم به الميليشيا من جرائم، عبر محاولات يائسة لإلصاق تهم مثل استعمال أسلحة كيميائية، أو النسبة إلى تبعية إيران.
إن الحقائق على الأرض لا تحتاج إلى توثيق، فانه من الثابت بصورة لا لبس فيها فرار المواطنين من ديارهم بمجرد دخول جنود الميليشيا لأي مدينة أو قرية، كما أنه من الثابت أيضاً عودتهم الطوعية لديارهم على الرغم من أنها مدمرة، بمجرد هزيمة الميليشيا وخروجها منها.
والعالم كله يلاحظ أن الميليشيا قد اغترت بتغاضى بعض القوى العظمى عن جرائمها ودعمها المستتر لها، فهي تسند ظهرها إلى الحائط، وتوثق جرائمها بيدها متحدية العالم كله، ولم تعد تأبه بأي قوانين أو محاسبة. وهي بذلك تحاكي من يتبناها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. فيما يعنى أن “آل دقلو” قد أصبحوا يعتقدون أنهم متساوين مع “آل نتانياهو” في منطق التوحش والقوة الغاشمة واحتقار القوانين والقيم.
الحل: سوداني.. سوداني
في الوقت الذي يؤدي فيه الجندي واجبه في الميدان لكسب الحرب، وتؤدي الحكومة دورها الدبلوماسي لوقف نزيف الدم، تبقى الجبهة الداخلية هي العامل الأهم، بل والأوحد، الذي يمثل الركيزة الأساسية للخروج بالبلاد من هذه الأزمة الخانقة إلى رحابة الاستقرار. فمن أين نبدأ؟
يبقى تنظيم عودة المواطنين النازحين إلى ديارهم هو العامل الأكثر إلحاحاً، وتأمين هذه الولايات هو صمام الأمان. البداية الحقيقية للحل الشامل للأزمة، بمفهوم أن الجبهة الداخلية، هي الحل.
1/ إعلان “الفيدرالية” Federal Republic of Sudan وتفعيلها فوراً في الولايات المستقرة.
لماذا الفيدرالية؟
1. لاستعادة الثقة بين المركز والولايات، من خلال تأكيد ضمان الاستفادة العادلة للموارد وأن تستغل كل ولاية مواردها وفقاً لقوانين الدولة الفيدرالية.
2. للتخلص من حجة التهميش التي ترفعها الحركات المسلحة منذ عقود.
3. لتحقيق التحول السلمي للحركات المسلحة بدفعها نحو التخلي عن السلاح والتحول إلى أحزاب سياسية، وبالتالي الوصول إلى جيش وطني موحد ذو عقيدة قتالية واحدة، بعيداً عن الاستقطاب السياسي والإثني.
كيف نطبق الفيدرالية؟
1. التبني الرسمي: أن تتبنى الحكومة الحالية تطبيق النظام الفيدرالي في كافة أنحاء السودان.
2. بناء الثقة المسبق: على أن يسبق ذلك نشاط منسق من متخصصين في إسكات خطاب الكراهية، والحد من الاستقطاب الحاد.
3. التفاهم مع المؤتمر الوطني: الوصول إلى تفاهم مع المؤتمر الوطني بإلغاء القرارات الخاصة بممارسة النشاط السياسي، مقابل انسحابه المؤقت من الساحة السياسية إبان الفترة الانتقالية، مع تعهده بتقديم الذين أفسدوا في عهد البشير للعدالة بعد عودة الحياة للوطن.
4. تشكيل اللجان التكنوقراطية: تشكيل لجان تكنوقراطية متخصصة (غير منتمية حزبياً) لمراجعة وإعداد:
· قوانين الفيدرالية
· قوانين الأحزاب السياسية
· قوانين الانتخابات الولائية والفيدرالية
5. لجان التنفيذ والانتخابات: تكوين لجان تنفيذية محايدة للإشراف على إجراء الانتخابات الولائية في الولايات المستقرة.
6. تكوين الحكومات المحلية: تكوين الحكومات والبرلمانات الولائية بصلاحياتها الكاملة التي كفلها لها القانون الفيدرالي.
7. المجلس التشريعي القومي: إيفاد ثلاثة أعضاء من كل ولاية (من الفائزين في الانتخابات) إلى المركز لتكوين المجلس التشريعي القومي.
8. دعوة الولايات غير المستقرة: دعوة جميع الولايات الأخرى غير المستقرة، وجميع الحركات والميليشيات المسلحة، لإلقاء السلاح والانضمام إلى مشروع الفيدرالية، والتحول إلى أحزاب سياسية وفق القانون الجديد.
البدء فوراً: البدء في تنفيذ هذه الخطوات من خلال الحكومات الولائية فور تشكيلها.
الختام: رؤية من الداخل
ولا بد لنا في الختام من أن نشير إلى أن هذا الحل الوارد في هذا المقال هو عبارة عن خلاصة مستنبطة من “رؤية تجمع المستقلين” للحل السياسي الشامل للأزمة السودانية، (هذه الرؤية التي لم تجد حظها من الاهتمام والتي تقوم على توازن المسارات بين الأمني والعسكري والعدلي والسياسي والمدني، وتتميز بتفادي العراقيل أو التعامل الاستباقي معها، ووضع الحلول المناسبة لها، وترتكز على إرادة وطنية مستقلة لا تنتظر تفويضاً من الخارج.)
بهذا وحده يمكن أن يتحول سقوط الفاشر إلى محفز لوعي وطني كبير، تُستعاد من خلاله الدولة من داخلها، لا من مكاتب السفراء. فالكل يردد أن حل الأزمة يجب أن يكون سودانياً سودانياً، لا من واشنطن ولا من الرباعية. ولكن غالباً ما تغيب الرؤية الواضحة، ويبقى الحديث عن الحل الداخلي مجرد شعارات تردد بلا طائل، أما الآن فقد حان الوقت لترجمة تلك الشعارات إلى فعل، وها نحن نسهم بلفت نظر الجهات ذات الاختصاص للنظر في رؤية تجمع المستقلين، بإرادةٍ تُعيد تعريف النصر.
والله ولي التوفيق..
30 أكتوبر 2025