محمد الحسن محمد نور: حمى الاعترافات بدولة فلسطين
لا يمكن تقييم موجة الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية بمعزل عن الأحداث الجارية في المنطقة وفي مناطق أخرى من العالم، جراء التوتر الكبير الذي أحدثه ظهور قوى جديدة صاعدة بقيادة روسيا والصين تهدد عرش الولايات المتحدة الأميركية.
إن التحرك الأخير بإعلان الاعتراف بدولة فلسطين، الذي بدأته كل من إسبانيا والنرويج وأيرلندا، والذي تواصل وسرى بعد ذلك سريان النار في الهشيم بين الدول الأوروبية، قد أتى في توقيت يحمل دلالات متعددة، لا سيما في ظل تصاعد حملة الإبادة في قطاع غزة. هذا التحرك بدا كما لو أنه تغيير في السياسة الخارجية للدول الأوروبية، إلا أن الحقائق على الأرض تقول شيئاً آخر. فهو في حقيقته قد أتى كرد فعل محسوب نتيجة للزخم الشعبي غير المسبوق الذي اجتاح الشارع الأوروبي.
لقد أثارت مشاهد الدمار الشامل في غزة، وصور الأشلاء للأطفال المشوهين تحت الأنقاض، موجة من الغضب العارم والمظاهرات الحاشدة في مختلف المدن الأوروبية، حيث نزل آلاف المتظاهرين إلى شوارع لندن وبرلين وباريس وأنقرة للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار. وفي مدن مثل ميلانو ومانشستر وشتوتغارت، رفع المتظاهرون شعارات تندد باستمرار الدعم الأوروبي لإسرائيل وتطالب بمحاكمة القادة الإسرائيليين على جرائمهم. هذا الحراك الشعبي القوي، الذي وثقته منظمات حقوقية قد مثّل تحدياً مباشراً للسياسات الحكومية التي لطالما دعمت إسرائيل بالمال والسلاح وغضت الطرف، أو وافقت على سياسة الظلم وقضم وضم الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها، حتى وصلت إلى الإعلان الرسمي من قبل تل أبيب وواشنطن عن منع ومناهضة قيام الدولة الفلسطينية، وها هو الرئيس ترمب يرفض منح وفد السلطة الفلسطينية تأشيرة الدخول لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بقصد عرقلة الاعتراف الكامل المتوقع بالدولة الفلسطينية كاملة السيادة.
وجدت الحكومات الأوروبية نفسها في موقف حرج، حيث يتعارض دعمها لإسرائيل مع قيمها المعلنة ومطالب ناخبيها. لذلك يرى كثير من المراقبين أن هذه الاعترافات المحمومة ما هي إلا استراتيجية سياسية ذكية لامتصاص الغضب الشعبي وتجاوز هذا المأزق.
إن الزخم والفرقعة الإعلامية والترحيب الكبير بالاعترافات يشير إلى العديد من المقاصد المعدة بعناية، فهى لا تزيد عن كونها إجراءً رمزياً لا يكلف شيئاً، ويهدف إلى إظهار هذه الحكومات وكأنها “تقف مع الحق” وتستجيب لمطالب شعوبها، دون أن تضطر إلى اتخاذ إجراءات جذرية تضر بعلاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع إسرائيل والولايات المتحدة. فالاعترافات الدبلوماسية التي جاءت بعد سنوات طويلة من الدعم غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل، وحظيت بترحيب معظم الدول العربية والإسلامية، بقيت يتيمة لم تتبعها، ولم تقترن بأية خطوات عملية لوقف آلة الحرب الإسرائيلية، وظلت إمدادات السلاح تواصل تدفقها من ذات الدول إلى إسرائيل لدعم آلة القتل والإبادة والدمار.
تشير التقارير إلى أن عدداً كبيراً من هذه الدول، “23 دولة أوروبية”، استمرت في تزويد إسرائيل بالأسلحة خلال عام 2023. وتُظهر البيانات أن ألمانيا، على سبيل المثال، قد قامت بتصدير أسلحة بمئات الملايين من الدولارات إلى إسرائيل في عام 2024، شملت مكونات دفاع جوي وذخائر وتكنولوجيا تطوير أسلحة. كما أظهرت تقارير أخرى أن دولاً مثل جمهورية التشيك وصربيا وبولندا واليونان وهولندا استمرت في إبرام صفقات أسلحة مع إسرائيل.
هذا المشهد يعبر بجلاء عن طبيعة السياسة الخارجية الأوروبية؛ فبينما يتم اتخاذ قرار الاعتراف بدولة فلسطين بشكل منفرد على مستوى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تظل سياسات تصدير الأسلحة خاضعة لاعتبارات أمنية واقتصادية راسخة واتفاقيات طويلة الأمد. وتجدر الإشارة إلى أن إسبانيا كانت قد دعت إلى حظر أوروبي شامل على تصدير الأسلحة لإسرائيل، إلا أن هذا الموقف لم يحظَ بأي تأييد ولا حتى مجرد قبول.
إن الواقع على الأرض يؤكد أن دولة فلسطينية لا يمكن أن تقوم على أرض مجزأة، تستحيل السيطرة على حدودها وأمنها واقتصادها. فبينما يتمسك الغرب والعرب بإطار “حل الدولتين”، فإن السياسات الإسرائيلية الاستيطانية التوسعية، المدعومة أميركياً، قوضت هذا الحل بشكل ممنهج. ففي دراسة لجامعة تل أبيب عام 2024، تبين أن إسرائيل تبني بمعدل 12 وحدة استيطانية يومياً، بما يزيد التمزيق الجغرافي بشكل مستمر. فضلاً عن تدجين السلطة الفلسطينية وتحويلها من ممثل للشعب الفلسطيني إلى مجرد “حارس” للمستوطنات الإسرائيلية تحت شعار “التنسيق الأمني المقدس”، في وقت تمسك فيه إسرائيل فعلياً بتلابيب السيادة. وهكذا جعلت من حل الدولتين هدفاً صعب المنال.
إلى جانب ذلك، تواصل كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل معارضتهما ورفضهما التام لقيام الدولة الفلسطينية، حتى يتمكنا من فرض شرط “الدولة المنزوعة السلاح” اذا كان لابد مما ليس منه بد تأكيداً لضمان أمن إسرائيل.
وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية قد أبدوا استعدادهم لقبول “ترتيبات أمنية تعود بالنفع على جميع الأطراف”، فإن حركة حماس رفضت بشكل قاطع هذا الشرط، معتبرة أنه يفرغ الدولة من أي محتوى سيادي حقيقي؛ فالدولة التي لا تحتكر استخدام القوة على أراضيها تفقد أهم مقومات وجودها.
وتتفاقم مشكلة السيادة أيضاً بسبب الحقائق الجغرافية والاقتصادية القاسية. فالأراضي الفلسطينية غير متصلة جغرافياً، حيث قُسمت الضفة الغربية إلى 165 كياناً معزولاً بفعل الجدار والمستوطنات، بينما تفصل مسافة 40 كيلومتراً من الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية بين الضفة الغربية وقطاع غزة. كما تسيطر إسرائيل على 100% من المعابر الحدودية وتتحكم في حركة البضائع والأفراد. أما اقتصادياً، فيعاني الفلسطينيون من تبعية بنيوية للاقتصاد الإسرائيلي، حيث تقع 85% من مصادر المياه في الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية، وتمر 70% من الصادرات الفلسطينية عبر المعابر الإسرائيلية، بينما تأتي 92% من الواردات عبر إسرائيل. وقد وصفت دراسة لجامعة كامبريدج هذه التبعية بأنها شكل من أشكال “الاستعمار القانوني الحديث”، الذي يجعل الاعتراف بدولة فلسطين مجرد اعتراف بكيان يفتقد مقومات الاستقلال.
ولا يمكن فهم موجة الاعترافات الفلسطينية بمعزل عن المشهد الجيوسياسي الأوسع، الذي تجتاحه تحولات حادة في عقائد القوى العظمى وتصاعد المنافسة. فالاعتراف الأوروبي جاء متزامناً مع تحولات مفصلية في السياسة الأميركية. ومن أبرز دوافعه أيضاً التطور في مواقف بعض دول الخليج، الذى أفرزته حادثة انتهاك سيادة دولة قطر فى محاولة اغتيال وفد من حماس المفاوض في الدوحة، وهي حادثة أعادت إلى الأذهان سلسلة طويلة من الاغتيالات، وتعمد انتهاك القانون الدولي وانتهاك سيادة الدول. هذه الوقائع رسخت القناعة لدى دول الخليج بأن الضمانات الأمنية الأميركية لم تعد ذات قيمة، وأن التهديد قد أتي بالفعل من “الحليف المقرب المؤتمن”. من هنا بدأت هذه الدول في البحث عن شراكات جديدة مع قوى مثل روسيا والصين وباكستان، كجزء من مسعى لتنويع التحالفات وتجاوز الهيمنة الأميركية.
وهناك في رقعة أخرى من العالم، فى الاتجاه المقابل، رفعت الإدارة الأميركية سقف التصعيد. فقد وقع الرئيس ترمب أمراً تنفيذياً بإعادة تسمية وزارة الدفاع إلى “وزارة الحرب”، في إشارة إلى تحول أيديولوجي جوهري يقوم على “السلام من خلال القوة”. لم يكن الأمر شكلياً، بل رافقته تحركات عسكرية ميدانية، شملت إرسال سفن حربية وغواصة نووية إلى منطقة الكاريبي بذريعة مكافحة المخدرات، في خطوة اعتبرتها فنزويلا تهديداً مباشراً. كما أطلق ترمب تصريحات نارية ضد بكين وموسكو، واصفاً إياهما بخصوم يجب ردعهم، وما زال يواصل التصعيد، ويعلن أنه سيسيطر على قناة بنما. هذا النهج العدواني وضع الصراع في الشرق الأوسط ضمن سياق أوسع: صراع على الهيمنة في عالم يتغير بسرعة.
الخاتمة:
في ضوء ما سبقها وما تبعها من أحداث وتفاعلات في هذه المنطقة وفى بقية العالم، فإن موجة الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين قد جاءت انعكاساً لأزمة النظام الدولي أكثر منها تحوّلاً جوهرياً في المواقف. فهي اعترافات انتُزعت تحت ضغط الشارع ولم تُمنح طوعاً أو عن قناعة، ولذلك ظلت رمزية لا توقف حرباً ولا تؤسس دولة. ومع ذلك، فإنها تكشف هشاشة المظلة الأميركية وارتباك الحلفاء الذين أدركوا محدوديتها. ويبقى السؤال الجوهري مطروحاً على شعوب ودول المنطقة: هل ستكتفي بتثبيت هذه الاعترافات وتعتبرها خطوة فى الاتجاه الصحيح، أم تحتفظ بها كأوراق ضغط، أم أنها ستغتنم اللحظة لتأخذ أمرها بيدها وتتحرر من وهم الحماية الأميركية، فتبدأ في صياغة توازنات جديدة على أسس أكثر عدالة وواقعية؟