للمرة الثانية خلال هذا العام نزور العاصمة الخرطوم، الأولى في أبريل والثانية في أغسطس الجاري، والفرق بين الزيارتين ينبئك بياناً عملياً المضي قدماً وبخطى ثابتة نحو إعادة الإعمار وتهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين لولايتهم.
كانت الشوارع تشهد حضوراً لافتاً لقوات الشرطة التي تحفظ الأمن، والبلديات ترفع أكوام النفايات، والمتطوعون يضفون على الطرق ألواناً زاهية على تريتوارات الأسفلت، وكأنهم يرسمون لوحة أمل جديدة، الأسواق عادت تضج بالحركة، والسيارات تملأ الشوارع، والمواطنون يعودون شيئاً فشيئاً.
كانت الزيارة بغرض تدشين المرحلة الثانية من مشاريع إكتمال إعادة تأهيل وإعمار خمسة من المؤسسات الصحية الأساسية بمحلية بحري، حيث سبقتها خمسة مراكز بمحلية كرري وأم درمان أواخر العام الماضي، بشراكة بين صندوق إعانة المرضى الكويتي والمنظمة الدولية للهجرة ورعاية مفوضية العون الإنساني ووزارة الصحة الولائية والاتحادية.
والي الخرطوم ووكيل وزارة الصحة الاتحادية و وزير الصحة المكلف بالولاية امتدحوا جهود الصندوق الصحية والتنموية والإغاثية في العاصمة قبل وأثناء وبعد الحرب، وتقدموا بشكرهم لقيادة الصندوق لحرصهم على الاستمرار في تقديم الخدمات في ظروف بالغة التعقيد، كما تقدم المدير العام بشكر الجهات الرسمية لمساندتها وتسهيل الإجراءات وتمهيد الطريق للمنظمات والمبادرات.
تمثلت إعادة الإعمار في تأهيل البنية التحتية للمراكز وتوفير الأثاثات الطبية والمكتبية وبعض الأدوية والمستهلكات الطبية وتركيب أنظمة الطاقة الشمسية، إلى جانب تدريب المتطوعين وتحفيز الكوادر الصحية العاملة بالمراكز.
ما رأيته على أرض الواقع أكد لي أن الإعمار ليس جدراناً وأسقف فحسب، بل هو إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته، وإعادة الأمل في نفوس أنهكتها الحرب وآثارها، فعبارات الشكر والثناء التي سمعناها من المواطنين والمسؤولين عكست حجم المشروع ومدى تلبيته لاحتياجاتهم التي ظلوا يعانون من فقدانها، حيث أسهم المشروع في بث الروح في هذه المراكز الأساسية بالمحليات الثلاث، مما يساهم في تحقيق استقرار واستدامة الخدمات الصحية.
ولأن صندوق إعانة المرضى يساند النظام الصحي ظلت خططه ومشاريعه وأنشطته تتماشي وتتسق مع خطط وزارة الصحة لتحقيق التكامل والوصول بالنظام الصحي لغاياته، لذلك كان اختياره عضواً في لجنة إعمار المؤسسات الصحية، وهي ضمن اللجنة السيادية التي تعمل على تهيئة البيئة لعودة المواطنين للخرطوم.
حرص الصندوق على تشغيل مستشفاه المتخصص في الأذن والأنف والحنجرة بامتداد الدرجة الثالثة بمحلية الخرطوم جزئياً كمرحلة أولى، ليضيف الخدمات التخصصية لمشاريع إعادة الإعمار، فمستشفى الدوحة الذي لم يسلم من العبث وطالته يد الدمار والنهب والخراب، صار ببفضل الله ثم عزيمة الرجال حلة بهية ومنارة يتوافد عليها طالبوا الخدمة الذين انقطعت بهم السبل، فهذه بطفلتها جاءت محولة من سنار لعيادة قياس السمع والاتزان، وكثيرون أرهقهم الانتظار الطويل بسبب إصابات وآلام في الأذن والحلق.
كل هذه المآسي وغيرها كانت دافعاً لقيادة الصندوق أن تبدأ بإعادة الإعمار رغم تكلفتها الباهظة، ولكنها تهون في سبيل المحافظة على صحة من كرمه الله من فوق سبع سموات، وما زالت الحاجة قائمة لاكتمال المراحل الأخرى لتعود الدوحة بكامل طاقتها فهيا يا أهل الخير والعطاء.
السبت الماضي كان يوماً فاصلاً في مسيرة مستشفى الدوحة التخصصي للأذن والأنف والحنجرة، وكأنها بُعثت من جديد، وهذه رسالة تبعث على الأمل والتفاؤل، فمن رآها قبل أشهر لا يصدق ما آلت إليه بسواعد أبنائها الخلص وعزيمتهم لينعم إنسان السودان بسمع طاهر ونقي من كل الشوائب ويستنشق روائح المجد والعزة والشموخ.
كل هذا يؤكد إن ما يقوم به الصندوق اليوم هو رسالة بأن الخراب مهما بلغ، فإن إرادة الإعمار أقوى، فهيا نواصل مسيرة الإعمار والبناء لنهضة السودان.