خارج النص
يوسف عبد المنان
خيبة الأمل؛؛
لا يساورني شك مطلقًا أن الحق منتصر، وأن دولة الظلم ساعة، وأن حقوق المقهورين والمنهوبين من مليشيا الجنجويد سترتد بنادقهم إلى أعناقهم. ولم نفقد بعد الثقة في جيشنا الوطني بكل تكويناته، وهو يقاتل مشروعًا دوليًا يمتد من الخليج إلى إفريقيا وجنوب أمريكا، وتدفق له المال الخليجي لجلب المرتزقة من كل فجاج الأرض.
لكن الإحساس العميق بالفشل السياسي لمشروع كان يشكل ـ عندي ـ الترياق الذي يعصم البلاد من أن تهوي مجددًا في السقوط والتمزق… وبعثرة السودان الذي فشل هذا الجيل في المحافظة عليه، بل إن هذا الجيل يحفر الآن عميقًا لدفن دولة كنا نباهي بها ونفتخر.
جاءت حرب منتصف أبريل قبل عامين وبضعة أشهر، وجمعت ـ بكل تبعاتها وآلامها وجروحها وعنفها الذي لم تشهده إفريقيا من قبل ـ قطاعًا عريضًا من أهل السودان. وحدتهم المحنة، وتراصت صفوف الشمال النيلي مع الوسط والشرق، وتوحدت مع غالبية سكان دارفور وجبال النوبة. وتشكل تحالف تلقائي عريض بمشاعره قبل بنادقه، وسنحت للفريق البرهان لحظة تاريخية ليخلّد اسمه في سجل العظماء الذين حققوا أعظم الانتصارات لبلدانهم.
ولكن ـ بكل أسف وأسى ـ فإن المشروع السياسي الذي تبلور من غير جهد من أحد، إنما جمعت المصائب “الجنجويدية” أغلب أهل السودان حوله، لم يجد من يقوده سياسيًا لتتعافى البلاد من أمراض الماضي الذي مزق حشاها لدولتين.
وحين وضع البرهان يده فوق يد مناوي وجبريل وعقار، وشمس الدين كباشي، وياسر العطا، وأحمد إبراهيم مفضل، وترك، ومنعم منصور، وكافي طيارة، والتوم هجو… ظن الكثيرون، وبعض الظن غفلة، أن التحالف سيمضي. ومع إقبال الناس على الغنائم، وترك القضايا الكبيرة يُعبث بها من لا وزن لهم، نُهش عظم التحالف.
وانتشرت في الميديا حملات تخوين وادعاءات بوجود ابتزاز يُمارَس على البرهان، مما دفع آخرين للتخندق معه. ودارت مساجلات هي الأكثر انحطاطًا بين دعاة “دولة البحر والنهر” و”دولة العطاوة” ودويلات أخرى.
وبكل أسف، الكل يعلم من يقف وراء هذه الحملات، ومن هو أبوها، وأخوها، وحموها، و”ذو مال” الذي ينفق عليها في السراء من غير ضراء. وقفت الدولة تستمع لتسجيلات لشخصيات هلامية، مجهولة الأسماء، معروفة بالأوصاف والألقاب، لكنها تنشر كل يوم ما يورث الفتن ويعمّق المرارات، ولا يردعها قانون، ولا يهش غنمها سلطان.
وخرجت أفاعٍ أخرى ترد كيد هؤلاء وأولئك، حتى بلغنا ما نحن فيه الآن؛ الجنجويد ينفشون ريشهم، ويهاجمون متحركات الجيش والقوات المشتركة والمساندة، بدلًا من أن تصل جحافل الجيش الآن إلى الدلنج، وتمسك عنق التمرد بتحرير زالنجي والجنينة، وتحاصر نيالا.
أمسينا ـ أمس الأحد ـ نتضرع إلى الله أن يرد كيد المتآمرين علينا في “أبو قعود” غرب الأبيض، و”أم قلجي” قرية البروفسور الراحل الضو مختار، ومجاهد محمد أحمد، لاعب الهلال والمريخ من قبل.
نعم، تأثرت العملية العسكرية بملاسنات الساسة في بورتسودان، وتضعضعت الوحدة التي قاتل بها الجميع في مدني والخرطوم حتى تحقق نصف الانتصار. ولكن الآن، كل ما تحقق يمكن أن يضيع مع رياح الخريف، إذا تمادى القادة الكبار في تشجيع لعب الصغار.
وبيد الفريق البرهان الآن، قبل أن تضيع ملامح الانتصار، أن يجمع صفه، ويبدد الشكوك بالأفعال، ويتجاوز الآثار الناجمة عن التشكيل الوزاري، وما تبعه من تعيين وزراء دولة في الوزارات التي كانت مثار نزاع بين العسكر وحلفائهم وشركائهم في المصير الواحد.
ولا يعجز البرهان ـ بقرار وجلسة مغلقة ـ أن يعيد التحالف إلى مساره القديم، ويفرض تدابير قانونية وأمنية تحد من انتشار الخطاب الكريه، لأننا أمام أمور “جد جد”، وهزلها جد.
ويمكن للبرهان وحده الآن أن يوقف تلويث عقول الشعب السوداني بالفجور الحسي والمعنوي.
اللهم فاشهد… قد بلغت رسالتي، مثل آخرين ساءهم ما يجري في وطنهم هذه الأيام.