سودانيون

د. ايناس محمداحمد تكتب : العدالة الانتقالية (1/2)

نشأ مفهوم العدالة الانتقالية في ظل اهتمام دولي متزايد للتصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مرحلة ما بعد الح رب والانتقال الى مرحلة السلام والحرية ، إذ غالبا ما تخرج الدول التي تعرضت للحروب والنزاعات الي صور شتى من الج رائم والانت هاكات تظهر بوضوح بعد انتهاء الح رب ، مما يجعل جرد حساب الحرب ثقيلا علي الدولة والمواطن معا .

ومع تطور الأحداث اتسع مفهوم العدالة الانتقالية ليشمل العديد من العلوم القانونية والاليات القضائية وغير القضائية والعديد من المجالات السياسية والثقافية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والاخلاقية ، ليشمل جميع مناحي الحياة ، ولكن السؤال متى ظهر مفهوم العدالة الانتقالية ؟ وكيف تطور ؟ وهنا نجد عددا من الاراء منها ما يرجح ان مفهوم العدالة الانتقالية تبلور من خلال التغيرات التي حدثت في أوربا الشرقية وفي امريكا اللاتينية وبعض دول أفريقيا ومسألة التحول الي المسار الديمقراطي فيها ، وهذا الرأي أخذ به فقهاء العلاقات الدولية واعتبروا ان العدالة الانتقاليةظهرت من تلك التغيرات السياسية المفصلية التي حدثت .

 

وهناك رأي آخر يرى ان العدالة الانتقالية ظهرت في محاكمات نورمبرغ عام 1945م حيث عملت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على توسيع نطاق آليات القانون الجنائي- في ذلك الوقت -لتتمكن من محاكمة قيادات عسكرية وسياسية في النظامين النازي والياباني مع التركيز على الجرائم المرتكبة وليس الخلفية السياسية لهما فقط ، مما كان له من اثر بالغ في إظهار الجانب الجنائي والتركيز على فكرة التجريم للأفعال التي وقعت والمحاكمات المترتبة عليها متخذة من اتفاقية منع الابادة الجماعية مرجعية قانونية لها ،

وتسليط الضوء حول تجاوزات الانظمة المهزومة مما كان له الأثر في تعزيز الوعي القانوني على المستوى الدولي ، ومنها ازدهر مفهوم العدالة الانتقالية وأصبح محلا للبحث العلمي في القانون الدولي ، هذا الاتجاه اخذ به فقهاء القانون الدولي ، والذين اثروا المنظومة القانونية بعدد من الاراء حتي وصلوا الي ان العدالة الانتقالية يمكن تعريفها بأنها” عملية المصالحة التي يسعي المجتمع الي تحقيقها من خلال إعادة تكييف العدالة وإقامة دولة الحق والقانون ، بالشكل الذي يعترف بانتهاكات حدثت لحقوق الإنسان ويجب محاسبة المسؤولين عنها “، هذا التعريف يضعنا امام مفهوم يرتبط بمتغيرين أساسيين هنا :
1/ان يكون المجتمع والدولة في حالة انتقال سواء من نزاع مسلح الي سلام ، او من حكم مستبد الى حكم ديمقراطي ، بمعنى ان المجتمع ينتقل من حالة سالبة الى إيجابية.
2/ان تكون هناك انتهاكات لحقوق الإنسان قد حدثت بالفعل مما يستدعي تدخلا لازالة آثار الانتهاكات ومحاسبة المتورطين فيها ، حتى تتحقق بالفعل دولة القانون .

رأى ثالث يرى ان التحول السياسي الذي حدث لعدد من الدول خلال الحرب الباردة وحتى الثمانينات من القرن الماضي، والتي اظهرت العديد من الصراعات الداخلية للدول وجرائم ضد الإنسانية ادت الى ظهور لجان التحقيق ( لجان الحقيقة ) والتي انشئت لأول مرة في أوغندا 1974م تحت اسم لجان التحقيق في الاختفاء القسري ، ثم في بوليفيا 1982م ، ثم في الارجنتين عام 1983م للتحقيق في جرائم الاختفاء القسري ابان الحكم العسكري في الارجنتين في الفترة بين ( 1976م -1983م) .
في ذلك الوقت برزت حركات شعبية واسعة عاونتها منظمات المجتمع المدني وقادة وطنيين في عدد من الدول ، مثل ما حدث في جنوب أفريقيا حيث قام المحامي والسياسي (أليكس بورين) الذي روج لتجربة بلاده في مجال العدالة الانتقالية ،

واجتمع في العام 2000م بمجموعة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان من ضمنهم الخبيرة القانونية في مجال العدالة الانتقالية (بريسيلا هاينز) واسسوا المركز الدولي للعدالة الانتقالية في العام 2001م ، بغرض وضع استراتيجية دولية لمؤازرة المجتمعات التي تخرج من حروب او حكم مستبد ، وقد شارك اكثر من خمسين بلدا في وضع تجاربهم وكيفية تحقيق العدالة الانتقالية في مجتمعاتهم كتجارب يستفيد منها العالم ليس من زاوية استنساخ هذه التجارب وتطبيقها على دول اخرى ، وانما بهدف معرفة عوامل النجاح فيها وتجنب ما حدث فيها من اخطاء .
من أشهر هذه التجارب تجربة دولة جنوب أفريقيا التي عاشت صراعات مسلحة زهاء ثلاثين عاما في ظل حكم نظام عنصري منذ العام (1960 _1990م ) وهي مرحلة فاصلة في التاريخ السياسي لدولة جنوب أفريقيا ، بدأت بمفاوضات سياسية في العام 1990م ثم وضع دستور انتقالي سنة1993م ، ثم إجراء انتخابات سنة1994م فاز فيها المؤتمر الوطني الافريقي وانتخب (نيلسون مانديلا ) رئيسا لجنوب أفريقيا .
ثم اسست جنوب أفريقيا لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون صدر عن البرلمان سنة1995م هو قانون( دعم الوحدة الوطنية والمصالحة )، بغرض إنهاء الفصل العنصري وانتقال البلاد الى الحكم الديمقراطي وسيادة الشعب وتجنيب البلاد الوقوع في حرب أهلية ، وجبر الضرر للضحايا .

ثم اتخذت العدالة الانتقالية منحى آخر بعد تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة1993م ، والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا 1994م ، ثم في 1998م تم إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي ادت لابرام العديد من اتفاقيات السلام منها اتفاقية (اروشا) ببورندي واتفاقية(ماركوسيس) الخاصة بساحل العاج .
كما أن دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ في 2004م واقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان ، كان لكل هذه العوامل الأثر الفاعل لاحداث تطور جوهري في مفهوم العدالة الانتقالية.

 

مما سبق نصل الي مفهوم عام للعدالة الانتقالية _باعتبارها _ الطريقة الصحيحة للانتقال من مرحلة الحرب والنزاع الى مرحلة السلام والديمقراطية ،تستند في مرجعياتها الى مباديء حقوق الإنسان والقانون الدولي الانساني وقيم السلام والعدل والتنمية وسيادة القانون وتشمل آليات لتقصي الحقائق ومحاكمة الأفراد المتورطين في ج. رائم ضد الإنسانية وجرائم ح رب وانت هاكات صارخة للقانون الدولي وتتضمن كذلك اساليب لجبر الضرر للضحايا والإصلاح المؤسسي واستقلال القضاء والالتزام بالقواعد الدولية للعدل والانصاف ، وصولا للهدف الأساسي وهو تحقيق المصالحة.

لكن هناك نقطة جديرة بالتركيز عليها وهي ان العدالة الانتقالية تتوقف على مدى استجابة المجتمع للتعافي من ارث الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، صحيح ان لكل مجتمع خصوصيته وظروفه لكن لابد من الإجابة على الأسئلة الصعبة والموحدة ، وهي تقرير موعد بدء مسيرة العدالة الانتقالية وتوقيتها وكيفيتها للوصول الى مستقبل عادل يحترم القانون ، يقر بجرائم٨ الماضي ويتصدى لها ، ويجبر الضرر الذي حدث لأن العدالة الانتقالية في جوهرها تعنى في المقام الأول بالضحايا وبحقوقهم وكرامتهم الإنسانية وأنهم أصحاب حق اولا .
لذلك فان عملية العدالة الانتقالية يجب أن ترتكز علي نقطتين اساسيتين:
1/ ان تكون محددة السياق وفق خصوصية كل بلد وما وقع فيه من أحداث واولوياته.
2/ان تقود السلطات الوطنية بنفسها مبادرات العدالة الانتقالية وتشارك في تنفيذها وتصميمها والاعتراف بها وجبر الضرر عنها للضحايا ثم وضع رؤية مشتركة للمستقبل .
3/ان يشارك الضحايا والمجتمعات التي تضررت في وضع آليات العدالة الانتقالية وكيفية تنفيذها على ارض الواقع.
4/ان يتم محاسبة المتورطين وفقا للقانون ، ووضع ضمانات لعدم تكرار الانتهاكات في المستقبل الى جانب الإصلاح المؤسسي والدستوري للدولة.
نوااااااااااصل، ،،،،،،،
اللهم انصر القوات المسلحة نصرا عزيزا يا الله سبحانك لا ناصر لنا الا انت

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.