سودانيون

إبراهيم شقلاوي يكتب… تحرير الجزيرة : حسابات الميدان و السياسة

مع تطورات ال ح رب السودانية باتت معركة تحرير ولاية الجزيرة و استعادة السيطرة على مدينة ود مدني تشكل نقطة تحول حاسمة ليس فقط في السياق العسكري ، ولكن أيضًا في التوازنات السياسية والاقتصادية للسودان. هذه المعركة ليست مجرد مواجهة تقليدية بين الجيش وميل ي ش يا الدع م ال س ريع فحسب بل تحمل أبعادًا أعمق تجعل منها اختبارًا لاستراتيجية الدولة السودانية وقدرتها على إعادة ترتيب موازين القوى داخليًا وخارجيًا . في هذا المقال نحاول مناقشة هذه القضايا بشي من التفصيل بجانب الأبعاد المتعلقة بحسابات الأمن والسياسة التي تفسر هذا الاهتمام الكبير من السودانيين وقيادة الدولة والحكومة وكافة المراقبين .

من الناحية العملياتية أخذ التحضير لهذه العملية وقتا كبيرا حيث المتابعة والتنسيق ، اعتمدت القوات المسلحة السودانية على تكتيكات هجومية متقدمة بقصد استنزاف العدو وكشف قدراته العسكرية ومكامن الضعف ، ثم بدأت بعد ذلك بعمليات السيطرة النيرانية واستهداف مراكز الثقل الاستراتيجية للميل ي ش يا . شهدت هذه الاستراتيجية توظيفًا مكثفًا للطائرات ال ح ربية والمسيرات ، التي حيدت القادة الميدانيين للعدو وقطعت خطوط الإتصال مما أسفر عن شل حركته وإضعاف قدرته على المناورة والإمداد . تبع هذه الاستراتيجية تقدما ميدانيا واسعا للجيش السوداني شمل عدة محاور رئيسية :

محور المناقل : حقق الجيش اختراقات كبيرة ، مكنته من السيطرة على قرى استراتيجية مثل الطلحة والوراق . كذلك في محور سنار : تمكن الجيش من السيطرة على مدينة الحاج عبد الله ، مما يعزز الضغط على المحور الجنوبي المؤدي إلى ود مدني. كذلك في محور الخياري : أسفر عن السيطرة على مواقع هامة كالشبارقة وكبري الشريف يعقوب ، ما وضع الميل ي ش يا في موقف دفاعي ضعيف وجعلها عرضة لمدفعية الجيش المباشرة بجانب طلعات الطيران الحربي والمسير اللذان لعبا دورًا حاسمًا ، حيث نفذا ضربات دقيقة استهدفت مراكز تجمعات الميل ي ش يا وخطوط إمدادها ، مما أضعف قدرتها على التنظيم وأدى إلى تفكك بنيتها القيادية .

هذا الواقع المدروس حسن من وضع الجيش بصورة كبيرة وجعل له الأفضلية في العمل الاستخباراتي و السيطرة والتقدم عبر وحدات الاستطلاع التي اعتمد عليها في العمليات الخاصة وعمليات الاختراق لصفوف العدو . هذه الاستراتيجية شغلت الميل ي ش يا وشلت قدراتها تماما ، وهي التي اتخذت من ولاية الجزيرة في فترة سابقة ساحة لان ت ه اكاتها ، أصبحت تعاني الآن من تفكك داخلي واضح . فقدت بموجبها عددًا كبيرًا من قادتها الميدانيين في عمليات قنص مباشرة وضربات جوية ، مما أدى إلى عزلة للعناصر المتبقية في جيوب متفرقة . علاوة على ذلك أدى تدمير خطوط الإمداد عبر الحدود الإقليمية ، خصوصًا من تشاد وممرات غير رسمية أخرى ، إلى وضعها في حصار استراتيجي خانق .

من واقع ذلك لا بد أيضا الوقوف على الأبعاد السياسية إذ يعتبر تحرير ود مدني يحمل رمزية سيادية كبيرة . المدينة باعتبارها قلب ولاية الجزيرة ، تمثل محورًا استراتيجيًا يربط وسط السودان بشرقه وغربه فضلا عن ربط العاصمة الخرطوم . استعادة السيطرة عليها لا تعني فقط تأمين المحاور الحيوية ، بل أيضًا إجهاض محاولات الميل ي ش يا وداعميها لفرض واقع سياسي جديد عبر إقامة إدارة مدنية صورية. انفاذا لإعلان المبادي الموقع في أديس أبابا في فبراير من العام 2023 بين الملي ش يا وتنسيقية القوي المدنية “تقدم” الذي أقر إقامة سلطة مدنية في محاولة لرسم ملامح اليوم التالي من الح رب . بجانب بنود أخرى متعلقة بحماية المدنيين و فتح الممرات الإنسانية لم يتم تنفيذها .

كذلك من المهم الإشارة إلى البعد الاقليمي . يأتي تحرير ود مدني في ظل تصاعد الاهتمام الدولي بح رب السودان . العقوبات الأمريكية الأخيرة على قائد الت م رد محمد حمدان دقلو “حميدتي” وشركاته الاقتصادية تمثل تحولًا في الموقف الدولي تجاه دعم هذه القوات ، وتشير إلى إدراك عالمي بخطورة استمرار هذا النزاع على الأمن الإقليمي . كما أن استعادة السيطرة علي ولاية الجزيرة يمثل فرصة جيدة لإخضاع الملي ش يا لأي اتفاق محتمل قد تمثله المبادرة التركية الرامية إلى اجتماع السودان والامارات لوقف إمدادها بالسلاح والمقاتلين .

على الرغم من الانتصارات العسكرية في محور الجزيرة ، والخطوات المتسارعة لاستعادة ود مدني فإن الطريق نحو استقرار السودان لا يزال يتطلب جهودًا متعددة الأبعاد يجب أن يدرك الجميع ذلك ، مؤكد نجاح تحرير ود مدني يوفر فرصة لتعزيز الشرعية السياسية للدولة السودانية ، وفتح المجال أمام عملية شاملة للاستقرار واستعادة الأمن ، تأخذ في الاعتبار التحديات الاجتماعية والإنسانية التي خلفتها الح رب . كذلك من الناحية الاجتماعية ، تحرير الجزيرة يتيح فرصة لعودة النازحين وإعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي تأثر بفعل الح رب . كذلك اقتصاديا فإن تأمين ود مدني يساهم في استعادة مشروع الجزيرة عافيته بجانب فتح الطرق التجارية الرئيسية التي تربط وسط السودان بشرقه ، وغربه مما يعزز استعادة الأمن والسلام ، كما أن حركة التجارة وانسيابها يقلل من حدة الأزمة الاقتصادية .

عليه وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن معركة تحرير ولاية الجزيرة تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة السودان على تجاوز تحديات الح رب وإعادة بناء سيادته الوطنية . النجاح في هذه المعركة يتطلب رؤية متكاملة ، تجمع بين الحسم العسكري ، والإدارة السياسية الواعية ، واستثمار الدعم الإقليمي والدولي ، لتحقيق استقرار مستدام يعيد للسودان مكانته الإقليمية والدولية . إذا ما تم استثمار هذا الإنجاز بحكمة ، فقد يكون تحرير ود مدني البداية الحقيقية للانتهاء من تمرد المل ي شيا و بناء سودان جديد آمن ومستقر .
دمتم بخير وعافية .
السبت 11 يناير 2025م.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.