مسكين هو وطني الذي يتمزق الان رغم اكتماله ل69عاما من الاستقلال الا ان سهام التفتت تنتاشه من كل صوب بفعل بنيه الذين يبدون الان وكأنهم قد اتفقوا جميعا على تمزيق السودان رغم خلافهم وإختلافهم وكراهية بعضهم بعضا.
فالحرب المشتعلة الان والتي اشعلها حكام الفترة “الانتقامية” وخطاب الكراهية الذي ساد اجتماعيا وسياسيا واعلاميا بيننا مثل انحدارا اخلاقيا رهيبا لقيمنا التي كنا نباهي بها وسط الامم.
هذه القيم ذات “الماركة” السودانية الخالصة والتي تتقدمها قيمة التسامح أضحت الان غير متاحة فقدتهاوت وتهاوت معها اسوار الاحترام والتبجيل فيما بيننا، واضحى بسبب ذاك التهاوي الصغير كبيرا والكبير صغيرا.!!!.
قبيل الحادي عشر من ابريل 2019 وهو تاريخ سقوط الانقاذ بدأت جماعات سياسية معلومة ببث خطاب كراهية بين مكونات المجتمع لتؤطر بذلك لمرحلة خطيرة في تاريخ السودان المجتمعي والسياسي وهي مرحلة “عدم القبول بالآخر”..
وسادت في هذة المرحلة روح التشفي والانتقام سياسيا واجتماعيا واعلاميا وسادت الفوضى وعلا خطاب الكراهية بسبب الانتصار للذات واهمل الوطن حتى كاد يهلك بسبب انشغال السياسيين في تصفية حساباتهم في الخرطوم ليمتد خطاب كراهيتهم الي اطراف البلاد فتعاظمت نبرة القبيلة لتطغي على كل قيمة للتسامح هناك فنشأت الصراعات ولغة الانتصار للقبيلةوالتهديد بالحرب.
في ظل هذه الغيبوبة” الانتقامية” التي عايشها الجميع بسبب غياب فضيلة التسامح بين مكوناتنا المختلفة تستحضرني هنا قصة المناضل نيلسون مانديلا،”ابو التسامح” والتي اهديها الى دعاة الكراهية والانتقام.
هذه القصة والتي اوردها مانديلا نفسه في مذكراته ينبغي ان يقرأها الجميع لان خلاصتها تصلح بان تكون ترياقا ناجعا لأوجاع الوطن المزمنة وحروبه التي تسببت فيها كراهية بعضنا للبعض بعدما سادت روح الانتقام والتشفي بيننا.
يقول الراحل مانديلا :”بعد أن أصبحتُ رئيساً، طلبتُ من بعض أفراد حمايتي التّجوال معي داخل المدينة مترجّلين. دخلنا أحد المطاعم، فجلسنا في أماكننا وطلبَ كلٌّ منّا ما يريده من طعام..
ويضيف مانديلا :” في الوقت الذّي كنّا ننتظر النادلَ أن يُحضِر لنا الطّعام وقع بصري على شخصٍ جالس قِبالتي ينتظر بدوره ما طلبه.
ويمضي مانديلا بالقول :” قلت لأحد أفراد حمايتي: “اذهب إلى ذلك الرّجل واطلب منه أن يأتي ويشاركنا الأكل على طاولتنا”.
ويضيف : “جاءَ الرّجلُ فأجلستُه بجانبي وبدأ كلّ منّا في تناول غذاءه، كان العرق يتصبَّبُ من جبينه ويده ترتجف لا تقوى على إيصال الطّعام إلى فمه…
ويقول مانديلا :”وبعد أن فرغ الجميع من الأكل وذهب الرجل في حال سبيله، قال لي حارسي الشخصي: “الرّجل الذي كان بيننا تظهر عليه علامات المرض، فقد كانت يداه ترتجفان ولم يستطع الأكل إلاّ النّزر القليل”.فأجبته: “لا، أبداً، ليس كما ظننت. هذا الرّجل كان حارساً للسّجن الانفرادي الذّي كنت أقبع فيه، وفي أغلب الأحيان وبعد التّعذيب الذّي يُمَارس عليّ، كنت أصرخ وأطلبُ قليلاً من الماء، فيأتي هذا الرجل ويقوم بالتبول على رأسي في كل مرة، لذلك كان يرتعد خوفاً من أن أعامله بنفس ما كان يفعل معي فأقوم بتعذيبه أو بسجنه.ويختم مانديلا بمقولته الحكيمة :”لكن ليست هذه أخلاقي، فعقلية الثأر لا تبني دولة في حين عقلية التّسامح تبني أُمماً”.
اذا سادتي.. السودان يحتاج الان بشدة من ابناءه تناسي جراح الماضي القبلية والسياسية وغيرها حتى ينهض من جديد فالضغائن لا تبني الاوطان انما يبنيها التسامح والترفع… فالنجعل مقولة نيلسون مانديلا:(إنّ الضحية لا تنسى الظلم الذي وقع عليها، لكنها يمكن أن تغفر وتسامح). تمشي بيننا.
عموما فإن مجمل الخطاب الاجتماعي والاعلامي والسياسي الذي يملأ فضاء السودانيين ما بعد ثورة ديسمبر يحتاج الى تحليل محتوى عميق فالمؤشرات الاولية لهذا الخطاب تكشف عن تحولات جذرية في بنية السلوك الاجتماعي والسياسي في السودان.