سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: ما الذي يحدث في أمريكا؟ هل تتحول إلى ملكية أو إمبراطورية؟

محمد الحسن محمد نور يكتب: ما الذي يحدث في أمريكا؟ هل تتحول إلى ملكية أو إمبراطورية؟

ما تشهدونه اليوم في المشهد السياسي الأمريكي ليس مجرد خروج عن النصوص المكتوبة، بل هو تحول عميق في طبيعة الثقافة السياسية ذاتها.

لقد كانت الولايات المتحدة، لعقود مضت، تتباهى بأنها “دولة المؤسسات”؛ الدولة التي تعلو فيها القوانين والأعراف على الأفراد، بغض النظر عن مناصبهم. لكن يبدو أن هذا النموذج يواجه الآن اختباراً وجودياً أمام صعود نمط جديد من القيادة يبدو كمن يعمل على تفكيك هذه المؤسسات من الداخل، أو – في الحد الأدنى – تحييد دورها الرقابي.

فعندما يستبدل الرئيسُ الإجابة على سؤال موجه إليه من إحدى الصحفيات بمهاجمتها في شخصها ووصفها بـ”الخنزيرة”، أو عندما ينشر على منصته الخاصة فيديو “مركبً بالذكاء الاصطناعي” يُمعن من خلاله في إهانة المتظاهرين بصب النفايات أو البراز على رؤوسهم. تماماً كما فعل القذافي حينما وصف المتظاهرين بـ”الجرذان”. أو حينما يتهم وسائل إعلام كبرى بالكذب الممنهج دون أن تتحرك أي آلية مؤسسية فاعلة لوقفه عند حدّه، فإن ذلك يشير بوضوح إلى واحد من أمرين:

إما أن المؤسسات قد أُضعفت عمداً لدرجة العجز، أو أن شرائح واسعة من الناخبين والنظام السياسي لم تعد تعتبر مثل هذه التصرفات تجاوزاً يستدعي المحاسبة، بل ربما ترى فيها “صراحة وجرأة” يتميز بها الرئيس في مواجهة النخب التقليدية وقيمها التي لم تعد ذات وزن في نظرهم.

لم يعد الأمر يتعلق بشخصية الرئيس الحالي أو سابقيه، وإنما بات تمرداً صريحاً على فكرة “المساءلة” في حد ذاتها، والتي كانت تشكل حائط الصد الأول أمام الاستبداد.

ولعل أحدث تجليات هذا النهج تتجسد في العدد الهائل من القرارات الرئاسية (213 قراراً) التي أصدرها الرئيس دونالد ترامب في عام 2025 وحده. هذه القرارات لم تكن إجراءات روتينية، بل مست مجالات حيوية: بدءًا من إعادة تنظيم الوزارات جذرياً ـ مثل إحياء “وزارة الحرب” بدلاً من “وزارة الدفاع” ـ إلى التدخل المباشر في آليات السوق عبر فرض تعريفات جمركية متقلبة، وصولاً إلى تعليق التوظيف الفيدرالي وربطه بشكل مباشر بأجندة الإدارة عبر أمر “ضمان الاستمرارية في المساءلة بالتوظيف الفيدرالي”.

هذه الإجراءات مجتمعةً ترسم صورة لسلطة تنفيذية تتمركز بشكل غير مسبوق حول الشخص الأول في البيت الأبيض.

إن سياسة “أمريكا أولاً”، كما تُطبق اليوم، تجسد تحولاً نحو القومية والحمائية؛ حيث ترفض واشنطن الالتزام بالاتفاقيات الدولية وتتهم حلفاءها باستغلالها. وهذا النهج، الذي بدا واضحاً من خلال الانسحابات المتكررة من معاهدات ملزمة، لم يجعل أمريكا “أولى” بل جعلها “وحيدة ومنعزلة” على الساحة الدولية.

الأكثر إثارة للقلق هو قدرة الرئيس على توجيه اتهامات خطيرة لأجهزة استخبارات أو لعمد ولايات، كما حدث في تصريحاته حول “زهران ممداني”، ثم التراجع عنها بعد ساعات ووصفه بـ”الرائع”. أو الجلوس مع قائد ميليشيا مثل الجولاني ـ الذي كان على قوائم الإرهاب ـ ثم إعلان رفع العقوبات عن نظامه على الهواء مباشرة دون أي آليات مؤسسية.

هذه التصرفات المتقلبة والفوضى في صنع القرار تطرح سؤالاً جوهرياً: من يحكم أمريكا فعلياً؟

هل هي مؤسسات الدولة العميقة التي تضع الدراسات وتحلل المخاطر، أم هو مزاج الشخص الأول في البيت الأبيض، الذي يتغير بين عشية وضحاها؟

ويكفي مثال برنامج “البطاقة الذهبية” الذي يسمح بشراء تأشيرة الهجرة مقابل “هبة” قدرها مليون دولار، في خطوة تكرس مبدأً تجارياً صرفاً في أحد أكثر الملفات حساسية: الهوية الوطنية.

إن إهانة الضيوف داخل البيت الأبيض أمام الإعلام ـ مثلما حدث مع الرئيس زيلينسكي أو عدد من القادة الأفارقة ـ ليست مجرد خرق للبروتوكولات الدبلوماسية التي التزمت بها واشنطن منذ تأسيسها، بل هي إعلان بأن “قواعد اللعبة” قد تغيرت.

فالدبلوماسية، في منطق هذا النمط الجديد، لم تعد فن بناء الجسور، بل أداة للمفاوضة العلنية عبر الإذلال وإظهار السطوة، فقط لفرض الأمر الواقع.

هذا النهج لا يضعف ثقة العالم بالولايات المتحدة فحسب، بل يرسخ سابقة قد تدفع باتجاه فوضى شاملة في العلاقات الدولية، حيث تنهار آخر ما تبقى من أخلاقيات الحوار بين الدول.

لقد أصبح تراجع الديمقراطية واقعاً ملموساً ورصدته مؤشرات عالمية عديدة. فحادثة الهجوم على مبنى الكابيتول ـ ذلك المبنى الذي يرمز للديمقراطية الأمريكية ـ من قبل حشود مؤيدة للرئيس ترامب عقب خسارته للانتخابات، لا تزال شاهداً قوياً على ذلك التراجع، إذ لم تؤدِ إلى أي محاكمة سياسية فاعلة، ولم تصدر قرارات حاسمة كالعزل أو الحرمان من الترشح.

تسير السياسات الأمريكية الحالية بخطى ثابتة نحو خطاب تحريضي يزيد الاستقطاب والانقسام، وهو ما كان من المستحيل حدوثه في الماضي القريب.

أما تصريح المتحدثة باسم البيت الأبيض، فقد جاء منسجماً تماماً مع هذا التحول؛ إذ أعاد تعريف المعايير السياسية. فما كان يُعد وقاحة صار يُقدَّم اليوم كـ”صراحة”، وما كان يُوصف بعدم الاحتراف أصبح “صدقاً” يفضله الشعب على دبلوماسية السياسيين التقليدية. إنها إعادة تعريف للفضيلة السياسية ذاتها، حيث تتحول العيوب إلى مزايا، والاستبداد بالرأي إلى قوة شخصية.

وفي الوقت الذي تنشغل فيه أمريكا بمشكلاتها الداخلية، تنشط قوى صاعدة ـ مثل الصين ـ لتبني نموذجاً منافساً، يستثمر في البنية التحتية المتقدمة، والتعليم، والتكنولوجيا، ورؤى طويلة المدى.

وأمام هذه التحولات، بدأ حلفاء أمريكا التقليديون بمراجعة حساباتهم، وارتفع الإحساس بفقدان السيطرة على المشهد الدولي.

وفي ظل الشعارات الصاخبة من قبيل: “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، كان لابد من ردّ فعل يحفظ ماء الوجه. وقد جاءت هذه الردة بالفعل، لكنها جاءت هذه المرة على إيقاع الوضع الجديد: قرارات يغلب عليها الطابع الفردي، متحررة جزئياً من المؤسسية.

فبدلاً من الوفاء بالوعود الانتخابية بإنهاء الحروب، وغداة ابتعاد الحلفاء عنه، ألفى الرئيس ترمب نفسه في موقف الدفاع عن مركز بلاده الريادي، فكان لابد أن يحدث العكس: وجد الرئيس ترامب نفسه مضطراً لرفع عصا القوة  فأشعل مزيداً من الفوضى في الشرق الأوسط، وهدد فنزويلا في الكاريبي، ولوّح بالاستيلاء على قناة بنما وجزيرة غرينلاند، وما تزال الأوضاع تتفاعل.

لقد شهد عام 2025 ضربات جوية أمريكية مباشرة ضد إيران، وتأكيداً للدعم غير المحدود لإسرائيل في حرب غزة، بالتوازي مع التفاوض على صفقة لإنهاء الصراع هناك بمشاركة شخصيات غير تقليدية مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

كما أنهت واشنطن وضع الحماية المؤقتة (TPS) لعدد من الدول مثل أفغانستان والكاميرون.

هذه الخطوات تشير بوضوح إلى انتقال السياسة الخارجية الأمريكية نحو نهج أكثر عدوانية وأقل التزاماً بتحالفاتها التقليدية.

في النهاية، يبقى السؤال قائماً:

هل يكتمل تحول أمريكا إلى ديكتاتورية بالمعنى الكلاسيكي؟

وإذا كانت المؤسسات الدستورية ما تزال قائمة، فهل تملك الإرادة والأدوات لوقف انزلاق النظام نحو “الشعبوية الكاملة” التي تتمحور حول إرادة رجل واحد؟.

23 نوفمبر 2025

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.