د. الفاتح يس يكتب: الذهب الحيواني السوداني الضائع
يطل على الأمة الإسلامية عيد الأضحى المبارك؛ أعاده الله علينا وعلى جميع المسلمين والمسلمات بالخير واليمن والبركات، ووفقنا الله على أداء شعيرة النحر والذبح وإراقة الدماء بــ التكبير والتهليل وذِكر الله.
لا يخفي عليكم القيمة الاقتصادية للجلود، ونعلم أن البلاد ليس لها بال في أن تستفيد من هذه الجلود حتى قبل الحرب؛ لكن لا بأس من أن نتناول عمليات الدباغة وكيفية الاستثمار في هذا الذهب الحيواني السوداني الضائع؛ عسى ولعل أن نستفيد من عائداته في إعادة إعمار البنية التحتية، وآثار ما دمرته هذه الحرب اللعينة.
يمكن الاستفادة من نفايات ومخلفات الذبيح والبقايا الحيوية؛ خاصةً الجلود؛ ذلك المورد الحيوي الاقتصادي الذي يرفد العملات الأجنبية إلى خزانة الدول التي أحسنت التعامل معه.
تبدأ دباغة الجلود من مرحلة تطهير الجلد إلى مرحلة الطلاء بالألوان والتشطيب؛ ومن ثم تبدأ مرحلة تحويل هذا الجلد المدبوغ إلى منتجات جلدية مثل الأحذية والشنط والإكسسوارات وغيرها من المنتجات الجلدية الحديثة.
عمليات الصناعات الجلدية لا تبدأ من المدابغ فحسب؛ ولا تبدأ من مرحلة جمعها، وإنما تبدأ من مرحلة ذبح الحيوان ذبحاً صحيحاً وإخراج الجلد سليماً دون أي ثقب (سواءً كان ضان أو ماعز أو عجل)؛ وحتى عملية إخراج الجلد بصورة صحيحة؛ سيقلل من معدل وسرعة الإصابة بالبكتريا والكائنات الدقيقة للجلد.
كلكم شاهدتم بــ أم أعينكم الإهمال الواضح الذي ألم بــ جلود الأضحى في الأعوام الماضية خاصة فترة الحرب؛ وكيف تم رمي هذه الجلود بقارعة الطرقات والأزقة والميادين؛ ومحصلة هذا الإهمال كان توالد البعوض وانتشار الروائح الكريهة والأمراض التي تسببها الميكروبات، وهذا العام ضرب وباء الكوليرا حمانا الله وإياكم بعض مدن البلاد.
أبسط شيء يمكن أن يقدمه المواطن في هذا العيد هو الذبح وإخراج الجلد بطريقة صحيحة؛ ودفن الدماء والعظام وبقايا ومخلفات الذبيح في الأرض؛ حتى لا يجد الذباب والبكتريا والكائنات الحية فرصة ومأوى ووسط مريح للنمو والتكاثر.
في حالة العدم؛ لا ضير أن تتم الدباغة في المنزل بطرق الدباغة التقليدية؛ بــ استخدام مواد دابغة محلية وصديقة للبيئة، وليس لها آثار ضارة بالبيئة مثل ملح الطعام واستخدام نبات القرض بعد طحنه. ومعروف أن الدباغة التقليدية موجودة في السودان منذ القدم وتعتبر إرث ثقافي مهني لبعض المناطق والقبائل.
بعد الانتصارات التي حققتها القوات المسلحة والنظامية؛ لابد من تغير عقليتنا في بناء سودان جديد وتوطين الصناعات الجلدية وإدخال القيمة المضافة لها؛ بتشجيع الدباغين التقليديين والحرفيين والعمال المهرة للانخراط في أنشطة الدباغة التقليدية والصناعات الجلدية الحرفية الصغيرة؛ وبحكم أن السودان دولة زراعية وتتوفر فيه المراعي الغنية وبه ثروة حيوانية كبيرة؛ فـ يمكن قيام مدينة الحرفيين للصناعات الجلدية، والاستثمار في هذا المجال الحيوي؛ أقلاها لتصنيع الأحذية والشنط التي تعتمد على الحرفيين والمهارة اليدوية، ولا تحتاج إلى ماكينات ومدخلات إنتاج معقدة باهظة الثمن؛ ويشرف على إدارة وتدريب هذه المدينة الحرفية مهندسو الجلود الذين تخرجوا من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا؛ لتستوعب هذه المدينة الحرفية الشباب أصحاب التعليم البسيط وخريجي المدارس التقنية؛ وهذه بمثابة خلق وظائف جديدة ستساهم في رفع معدل الناتج المحلي الإجمالي.
وبتقديم الدعم المادي والفني والتكنولوجي؛ يمكن لهذه المدينة الحرفية أن تتطور؛ لتنتج منتجات جلدية حديثة؛ ليتم تصديرها إلى الخارج؛ لترفد خزينة الدولة بالعملات الصعبة والاستفادة من حصائل الصادر؛ ليتعافي الجنية السوداني شيئاً فـ شيئا؛ حتى ينافس ويلحق بــ باقي العملات الأخرى.
نسأل الله أن تنتهي هذه الحرب اللعينة ونبدأ نستثمر في هذا الذهب الحيواني الضائع بإنشاء مدينة الجلود الحرفية التكنولوجيا في ولايات ومدن والمناطق التي فيها مزارع ومراعي الثروة الحيوانية، وهذه المدينة التكنولوجية سيكون لها مردودها وأثرها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
* أستاذ جامعي وباحث في قضايا البيئة والاستدامة