اغنية ” وعد النوار ” التي تعرف على نحو أشهر بمطلعها ” شال النوار ظلل بيتنا “، هي اغنية قمة في العذوبة والرومانسية، والنظم الشعري الانيق واللحن الطروب، والموسيقى الآسرة. وهي من كلمات الشاعر الكبير الاستاذ اسحق الحلنقي، وتلحين واداء الموسيقار العبقري الاستاذ محمد الامين.
لقد راجت قصة تاليف هذه الاغنية رواجاً واسعاً في الواقع، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي مؤخراً، حتى باتت معروفة لقطاع كبير من المهتمين والمتابعين في هذا المجال. ومضمون تلك القصة ان الشاعر اسحاق الحلنقي ، قد زار صديقه محمد الامين في البيت الذي كان يسكن فيه بمدينة ام درمان ذات ” قبايل ” عيد، فألفاه قلقاً ومتوتراً، لان خطيبته التي كانت تقيم مع اهلها في ود مدني، قد وعدته بانها سوف تزوره في رفقة بعض افراد اسرتها، ولكنهم تأخروا. وبإزاء تلك الحال، حاول الشاعر ان يسرّي قليلا عن صديقه المغني فقال له ” الغايب عذرو معاهو “، فالتقط الفنان محمد الامين هذه العبارة باحساسه الفني الشفيف معلقا عليها قائلاً: ده مطلع أغنية ! . فكان ميلاد اغنية ” وعد النوار ” كما زعموا.
مهما يكن من امر ، فان اغنية وعد النوار او شال النوار، هي اغنية كبيرة وفخمة، ومكتملة العناصر الأساسية التي تجعل العمل الغنائي ناجحا تماماً على وجه العموم، إلا وهي الكلمات واللحن والموسيقى والاداء ، وخصوصا ما يصاحب هذا الأخير من صدق في الاحساس بالكلمات، وتجسيد ما تصوره المواقف والانفعالات المتضمنة في النص، بصورة حية ومؤثرة بالنسبة للمتلقي، وهو ما نعتقد ان محمد الامين قد وفق فيه توفيقاً كاملا،
ولذلك فقد ظلت هذه الاغنية وما تزال، تحظى بشعبية كبيرة، وإقبال ملحوظ على الاستماع اليها من قبل جمهور المستمعين منذ ان ظهرت في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بل كانت احدى الاغنيات التي يكثر الطلب على استماعها من خلال برنامج ما يطلبه المستمعون بالاذاعة السودانية، وخصوصا في مواسم الأعياد.
وحدثني صديق لي طلعة وبحاثة، انه قرأ رأيا للموسيقار الكبير الاستاذ عبد الله حامد العربي، ادلى به في معرض حوار صحفي اجرى معه في حوالي عام 1974م، أنّ اغنية الموسم في رأيه في ذلك العام، هي أغنية ” وعد النوار ” المذكورة. وحسبك بذلك شهادة من عازف متمكن وملحن قدير.
على أن الاعلامي الكبير الراحل الاستاذ محمود ابو العزائم، قد انتقد في حوار إذاعي أجري معه ذات مرة، انتقد غناء محمد الامين عموماً – وهو انتقاد نرى انه قد أسرف فيه نوعاً ما -وذلك حين وصف الفنان محمد الامين بانه يؤدي ” مارشات عاطفية ” على حد تعبيره.
والحق ان اكثر اغنية لمحمد الامين ينبئ إيقاعها وتشي موسيقاها بروح المارشات العسكرية خاصةً، هي بالفعل هذه الاغنية بالتحديد وخصوصاً في لازمتها الموسيقية الاساسية او ” عصاتها ” كما يقال . ولعل السبب في هذه النكهة ” المارشاتية ” في موسيقى محمد الامين إذا ثبتت، من الجائز تفسيرها بحقيقة ارتباط محمد الامين الوثيق في صباه الباكر وشبابه، بفرقة موسيقى بوليس النيل الأزرق بمدينة ود مدني، مما جعله يختزن تلك الإيقاعات العسكرية في لاوعيه لبضعة أعوام، حتى إذا استوى عوده وظهر إلى الجمهور عبر الأجهزة المختلفة مطربا ذا شعبية كبيرة، جعل يخرج تلك الإيقاعات المختزنة في تناص معها، بصورةً آلية وغير مقصود من جانبه.
أما قول الشاعر اسحق الحلنقي في هذه الاغنية؛ ” لو وشوش صوت الريح في الباب .. يسبقنا الشوق قبل العينين ” فقد بلغ فيه لعمري ، الغاية في الابداع والتصوير الفني للمشاعر، عبر هذه الاستعارة البليغة، التي جعل هذا الشاعر الفنان من خلالها للشوق وسيلة متناهية في السرعة، تحركه نحو باب الدار، فيسبق بها حتى نظر العينين الذي هو في سرعة الضوء فيزيائياً، فهو أسرع من ذلك.
وأما قوله ” ونعاين الشارع نلقاه تايه في دموع المغلوبين ” ، ففيه التفاتة حميدة من الشاعر للمغلوبين والكادحين ومآسيهم، وانحياز لهم، وتضامن معهم، على الرغم من أن موضوع النص عاطفي صرف، فكأن الشاعر هاهنا، قد كان ” حزنان وواعي “، كما تقول العبارة التراثية السودانية !.
وختاماً إذا ما جئنا إلى العبارة الشهيرة التي هي ايقونة هذه الاغنية حقاً، وبسببها يعشق السودانيون عموما الاستماع اليها في ايام العيد، إلا وهي: العيد الجاب الناس لينا ما جابك .. يعني نسيتنا خلاص ! ” الخ، فنود ان نتوقف فيها، عند مفردة واحدة من مفرداتها من الناحيتين الدلالية والنحوية. تلك هي مفردة ” الجاب “، ومعناها؛ الذي جاب.
اللفظ جاب بمعنى أحضر وجلب الخ، وفي هذا السياق العيد الذي أجاء الناس، بمعنى جعل الناس يجيئون ويحضرون، لفظ مستخدم في جميع العاميات العربية المعاصرة. والأصل فيه انه لفظ منحوت من لفظين هما الفعل جاء أدغم معه حرف الجر الذي هو حرف الباء، فكأنه؛ جاء بكذا فصار جاب كذا. حذفوا الهمزة لثقلها وأدغموا الباء التي ترمز للشيء المجلوب مع بقية اللفظ “جا “.
واما قوله الجاب بمعنى الذي جاب، فانه من خصائص عربية اهل السودان الدارجة الصوتية والدلالية ايضا المميزة والقديمة. ذلك بانهم يلحقون ” ال ” بالأسماء وبالصفات وبالأفعال احيانا، لكي تقوم مقام اسماء الموصول الذي والتي وما اليهما افرادا وتثنية وجمعا، بينما الملاحظ في معظم اللهجات العربية المعاصرة الأخرى مشرقية كانت او مغربية، انها تستعيض عن اسماء الموصول المذكورة بلفظ ” اللّي ” بلام ثانية مشددة مكسورة تليها ياء.
وهكذا يقول السودانيون في كلامهم مثلا: ده الكلام الما بنفع معاي ! ، أو الجماعة السافروا معانا سوا لسه ما رجعوا ، او البنات الدخلن الجامعة كلهن اتخرجن الخ. وقد تلحق هذه ال ” ال ” الموصولية الأفعال ايضا فيقولون في امثالهم: التدورو والتاباه تكوس لى ليمو ما تلقاه الخ. وقد تصير جزءا من اسماء بعض الأعلام مثل ” الرَيّح ” بياء مشددة مفتوحة فان الأصل فيها هو الذي ريح اي أراح اهله من التعب والعنت مثلا. ومنه لقب الفنان الكبير الراحل ” حمد الريح “.
ولكن هذه الظاهرة اللغوية التي تتميز بها اللهجة السودانية بالتحديد، لها شواهد مؤكده من اللغة العربية الفصحى واستخداماتها القديمة ذاتها ايضا. فمن ذلك قول الفرزدق
ما انت بالحكم التُرضى حكومته
ولا الأصيل ولا ذو الرأي والجدل
اي الذي تُرضى حكومته
وكذلك قول الاخر؛
من القوم الرسول الله منهم
لهم دانت رقابُ بني مَعدِ
والمعني هو من القوم الذين رسول الله منهم.
وليُرجع في هذا الباب على سبيل المثال، إلى المبحث الخاص بصلة ” ال ” بمُعرب الأفعال في كتاب شرح الأشموني لألفية ابن مالك، فان فيه تفصيلاً جيداً ل ” ال ” الموصولية السودانية هذه.
هذا، وكل عام والجميع بخير.
آخر الأخبار
رؤى تاج السر... تكتب.... الخريف في السودان… موسم يروي الأرض والقلوب
إبراهيم شقلاوي... يكتب... 950 ميغاواط إلى الشبكة القومية
حسين خوجلي يكتب:.. الولد كريم الشِّفت وزيرا في التشكيل الجديد
الركابي حسن يعقوب.. يكتب.. ماذا بينكم وبين الله يا أهل السودان..؟!
ياسر الفادني يكتب .....الغباء يرتجل معركة… والذكاء يمسك بالزناد !
ختام ورشة تدريبية بالفاشر لمواجهة الكوليرا
طقس السودان اليوم
عدد من مستشفيات ومراكز صحية بالخرطوم "بحري" تستأنف عملها اليوم
إنشراح علي: أولويتنا خوض معركة الكرامة ولا وقت للجدل السياسي
بدء انعقاد الجمعية العمومية ل"الإتحاد السوداني" لكرة القدم بمروي
البوست القادم
قد يعجبك ايضا