-تحدث كثيرون عن السوء المحض الذى وَسَمَ فترة حكم المهدية تحت رئاسة عبدالله محمد تورشين المسمى بالخليفة التعايشى، وماجَرَّته على بلادنا من ويلات أهونها (مجاعة سنة ستة)!!
وبالمقابل فقد تصدىٰ بعض الكتاب فى اطار تأييدهم لاعلان حكومة تسويس أو تأسيس بحسبانها ترياق مضاد للتحيُّز التاريخى من أولاد البحر والجيش ضد مكونات حزب الأمة الآتية من جهة غرب السودان.
-لكن التاريخ الذى لا يجامل يشهد بأن أسوأ ما يمكن أن يقع من حاكم ضد شعبه قد وقع فى فترة حكم عبدالله ود تورشين (وجهديته) تماماّ مثل الذى وقع من حميدتى آل دقلو (وجاهزيته) فالفرق بينهما فرق مقدار.
-المكتبات تنوء بالوثائق التى سجلت لتلك الفترة والابادة المليونية التى تعرض لها شعب السودان من غربه ووسطه وشماله وشرقه،فقد هلك نصف السكان تقريباً، ومنعاً لأى تشويش على ذاكرة الشعب السودانى فاننا نعتمد ماجاء فى كتاب تاريخ السودان الحديث للدكتور محمد سعيد القدال دون النظر فى انتمائه الحزبى أو الجهوى او الأيدولوجية التى ينطلق منها، وسنضرب الذكر صفحاً عن مراجع الكتاب الغربيين على أهميتها، مع كونها تعضد التأكيد على حقيقة بطش ود تورشين المفرِط بخصومه السياسيين من أى جهة جاءوا.
يقول القدال فى الفصل الرابع من الكتاب الثالث(الدولة المهدية ١٨٨٥- ١٨٩٨)
واجَهَ المهدىُ منذ أيامه الأولى معارضةً داخلية لدعوته. وتصدى بعض رجال الدين والعلماء والطريقة الختمية وزعماء الصوفية من أمثال الفكى الكنانى، والمنا اسماعيل وبعض زعماء القبائل مثل الكبابيش،لكن انتصارات المهدية طَغَت على كل ذلك.
-واجَهَ(الخليفة!!) منذ أيام حكمه الأولىٰ معارضةَ الأشراف بالدم،والتى تطورت الى صراع بين مجمل أولاد البلد وأولاد العرب. وأدت سيطرة التعايشة على ازدياد أوار المواجهة اشتعالاً،فالدولة المركزية والمؤسسة القبلية تتناقضان، فاذا ما كانت الدولة فى قبضة قبيلة واحدة فان التناقض يزداد حدةً.
-فكان ● الكبابيش أول القبائل المعارِضة فى الغرب مع ان زعيمها الشيخ التوم فضل الله،قَدِم للمهدى فى الأبيض بصحبة أخيه صالح وأهديا للمهدى (مُراحاً) من الابل، وبايع زعيم الكبابيش عبد الله ودتورشين بعد وفاة المهدى لكن ذلك لم يعصمه من شكوك ودتور شين الذى فرض حصاراً على الكبابيش وارسل عامله على كردفان عثمان آدم (قريبه) ليمنع القبائل من بيع الحبوب للكبابيش ليهلكوا جوعاً !! أريتم ما يحدث للفاشر ؟ وما لبث ان أعلن الخليفة الحرب على الكبابيش فأرسل عليهم جيوش عثمان آدم، والنجومى، وأبوعنجة فهُزم جيش الكبابيش بعد مقاومة باسلة وأعتُقِل شيخ القبيلة وأُعدِم فى مايو١٨٨٧ وأُرسِل رأسه الى البقعة، وَجُرِّدَ الكبابيش من اِبِلِهم وأموالهم ونُكِّلَ بِهِم.
-وجاءت المعارضة الثانية من قبيلة ●الرزيقات التى انضم زعيمها مادبو على مُبكراً للمهدية وكانت له اليد الطُولىٰ فى اخضاع دارفور للمهدية، وحاول ودتورشين احضاره للبقعة فلم يستجِب،فأزعج ذلك الخليفة فهو لا يريد معارضةً له فى الغرب باعتباره الحاضنة له اذا تحرَّجَ موقفه فى أواسط السودان،ورأىٰ ضرورة القضاء العاجل على معارضة مادبو،فأمر جيشه كى يهاجم مادبو، فاعتقلوه فى جبل مرة أكتوبر ١٨٨٦م وأُرسِل مكبلاً الى أم درمان،ومَرَّ فى طريقه بالأبيض التى كان يعسكر فيها حمدان أبوعنجة بجهديته،فأعترض طريق مادبو على الذى قال له أنا لا أطلب رحمةً بل عدلاً. فقتله وأرسل رأسه الى البقعة !!
-وجاء الدور على قبيلة ●الفور، بعد تنافُس بين يوسف ابن سلطان الفور وكرم الله كركساوى عامل المهدية على دارفور،وأُرسِلت رسالة الى الخليفة تقول:(ان الفور قد شرعوا فى الفساد وأعادوا [تأسيس] حكومة آبائهم فسمُّوا الحكام بالملوك والشراتى، وأطلقوا على أميرهم يوسف اسم السلطان،وقد جاهروا بشرب الخمر والتمباك ومشوا سُكَارَىٰ فى شوارع الفاشر.[ظواهر سالبة !!] ما أشبه الليلة بالبارحة. فأوعز عبدالله ودتورشين الى عثمان آدم بالقضاء عليهم،فأعد متحركاً من الأبيض قوامه سبعة عشر ألف مقاتل، توجَّه الى الفاشر فى سبتمبر١٨٨٧م وفى ديسمبر هُزم الفور وأحتل عثمان ادم دارا،واعتقل السلطان يوسف وأعدمه وأرسل رأسه الى البقعة.
-ورأى الخليفة ترحيل ثلاث قبائل من البقارة وهم الرزيقات والهبانية والتعايشة الى أم درمان لكن الغزالى احمد خواف أحد زعماء (التعايشة) أبدىٰ اعتراضاً وقتل رسول عثمان آدم لكن الخليفة التعايشى عالج الأمر بمجموعة خطابات الى التعايشة وعلى رأسهم الغزالى ومنحهم العفو على ما بدر منهم!!(قبلية واضحة والا لانضم راس الغزالى الى باقة الرؤوس المرسلة الى البقعة)!!
-ومن الغرب الى الشرق امتدت يد ود تورشين الباطشة، أذ لم يُسارع الشيخ عوض الكريم أبوسن زعيم ●الشكرية فى الاستجابة للمهدية، وبسقوط القضارف فى يد المهدى، انحاز عبدالله أحمد أبوسن اليها فعينه المهدى عاملا عليها، وعندما تولىٰ ودتورشين الحكم ازدادت شكوكه حول قبائل السودان الأوسط. فاعتقل عبدالله أبوسن وزَجَّ به فى السجن ثم أطلق سراحه،لكنه وصف الشكرية بانهم(أهل حيلة وليسوا أهل تربية،ورأسهم خالى من جهة الدين وحيلهم كثيرة!!) وحذرهم بأن من يخالف أمره فسيقع عليه الجزاء الشديد بالتغنيم وما هو أشدَّ!! واستدعاهم الى البقعة وطلب تجديد البيعة،ولما لم تستجب القبيلة اعتقل ودتورشين زعماءهم الذين كانوا فى أم درمان وعلى رأسهم عوض الكريم أبوسن الذى توفى فى المعتقل من جراء المعاملة القاسية، والحرمان من الطعام أى الموت صَبْراً !! وتفرقت قبيلة الشكرية بين كسلا والقضارف ورفاعة، وواجه الشكرية ضيقاً فى المعاش ونقصاُ حَادَّاً فى الذرة ولفك(الحصار الاقتصادى) كتب أحد زعمائهم الى الخليفة راجياً السماح له بارسال كمية محدودة من الذرة لأهله فى كسلا بعد ما مات بعضهم جوعاً. نفس الحالة !!
-تعرضت قبيلة ●الضباينة لمحنة كُبرىٰ على يد ود تورشين مع ان زعيم القبيلة محمود ود زايد كان قد أعلن انضمامه للمهدى، وعندما اَل الأمر الى الخليفة، وهو رجلٌ مسكونٌ بالشكِّ فى كل من هو من غير قبيلته التعايشة استدعى ود زايد للبقعة لتقديم فروض الولاء والطاعة وزاد على ذلك بالقول:- (فقد سامحتك ظاهراً وباطناً فبادِر بالحضور لمقابلتنا ولا تخشىٰ من شئ فعليك أمان الله ورسوله ومهديه!!) ومتى كان لود تورشين أماناً !! فاتهمه بالاهمال بترك كميات من الذرة دون حماية فاستولىٰ عليها الأحباش،فقرر الخليفة القضاء عليه وتولى احمد الطريفى خداع ود زايد وأقسم له على المصحف،ومازال به حتى أوقعه فى حباله، واعتقله وأرسله الى البقعة فأودع السجن،ثم قرر الخليفة اعادة ود زايد(بعد أن نال حسن التربية!!)بزعم ودتورشين !! وتوفى ود زايد عام ١٨٩٦ وقد تحولت الضباينة الى قبيلة ضعيفة الشأن بعد القوة والمنعة !!
-أرجع الخليفة البصر كرتين شمالاً فرأى قبيلة● العبابدة التى تنتشر من بربر حتى كروسكو فى صعيد مصر وتسيطر على الطريق التجارى عبر صحراء العتمور، وقد اتخذت القبيلة موقفاً معادياً للمهدية لكن انتشارهم بين مصر والسودان عصمهم من أن تصل اليهم يد ود تورشين الباطشة.
-عارضت قبيلة ●رفاعة الهوى حكم الخليفة،مع ان القبيلة شاركت بفعالية فى الثورة المهدية ووجهت اول ضربة للحكم التركى فى منطقة الجزيرة بقيادة عامر المكاشفى،كما شارك زعيم القبيلة المرضى ود أب روف فى حصار سنار،وبعد وفاة المهدى بايع المرضى ود أب روف ودتورشين خليفةً للمهدى وعاد الى اهله. فطلب الخليفة حضوره للبقعة،ولما لم يأتِ ارسل اليه ودتورشين فرقة من جيش حمدان أبوعنجة بقيادة عبدالله ود النور والزاكى طمل فقتلوا المرضى ود أب روف مع مجموعة من قيادات القبيلة، وغنموا ممتلكات القبيلة وسبوا نساءها فخرجت قبيلة رفاعة الهوى من تلك المصادمة منهكة القوىٰ. !!
-وقد أبلت قبيلة●البطاحين أول المهدية البلاء الحسن وشاركت بقوة مقدرة فى جيش ود النجومى،وارتحلوا معه شمالاً،ولما اشتدت المجاعة عاد بعضهم الى مناطقهم بين النيل الأزرق ورفاعة وقطعوا الطريق لدرء الجوع فأرسل اليهم ودتورشين جيشاً قوامه ألفين وخمسمائة مقاتل من راية الخليفة على ود حلو بقيادة ود جار النبى فأوقع بالبطاحين خسائر فادحة بعد هزيمة كبيرة وأسر منهم سبعة وستين رجلاً، سيقوا الى البقعة زُمُراً،فسُلِخَت أقدامهم وعُلِقوا على المشانق وأرجلهم تقطر دماً،وجُدِعَتْ أُنوف بعضهم وقُطِعَت زمرةٌ أخرىٰ من خلاف،كان ذلك عام ١٨٨٨م، لكن ود جار النبى الذى ساق البطاحين الذين لقوا حتفهم بكل تلك البشاعة لم يلبث ان شرب من ذات الكأس،فقد طُرِد من راية على ود حلو فضمه يعقوب الى رايته فاخذ يشتم على ودحلو فحكم عليه ود تورشين بالاعدام وعندما أقتيد الى المشنقة طلب أن يُفَكّ القيد عن رجليه حتى لا يسير أمام الناس مقيداً فامر الخليفة بقطع رجليه من الكعبين لاخراج القيد منهما دون ان يُفَكَّ،فصاح ود جار النبى فى الناس أن أبلغوا على ود حلو (المغفل الجبان) بأنه لن يصل الى الحكم لأن التعايشى يعدّ ابنه للخلافة،قبل أن يرفس الكرسى من تحته ويتعلق فى الهواء!! انه التوريث أذاً !!
-ويالها من قسوة قلب ووحشية لا تشبه الَّا قسوة قلب وتوحش الجنجويد.
-أما قمة فظائع ودتور شين وجهديته فقد وقعت على قبيلة●الجعليين التى دفعت الثمن الأكثر فداحةً فى مقاومة الاستعمار التركى فهم أصحاب سابقة حرق اسماعيل باشا، وعليهم دون سواهم وقع انتقام الدفتردار وبالطبع فقد سبقوا الدعوة المهدية،فى محاربة الاستعمار، وما توانوا فى اسناد المهدية منذ لحظة ميلادها لكراهيتهم للحكم الأجنبى المتسلط،فجاءت لهم المهدية بمحمد الخير عاملاً عليهم متجاوزةً بذلك زعماء القبيلة ثم عزل ودتورشين محمد الخير وأسند الى أحد التعايشة!! أمر قبيلة الجعليين، فأشعل ذلك الصراع بين التعايشة وقبيلة الجعليين،وفى خضم هذا الصراع جاء غزو الانجليز لدنقلا شتاء ١٨٩٦م وهُزِمت جيوش المهدية التى تقهقرت(فلولها!!) الى أم درمان وظنَّت استخبارات الخليفة الضعيفة ان جيش الأنجليز سيزحف من الدبة عبر صحراء بيوضة الى المتمة كما فعلت حملة الانقاذ عام ١٨٨٥م فطلب اخلاء المتمة من الرجال والابقاء على النساء لخدمة جيش محمود ود أحمد الذى استدعاه ود تورشين بكامل جيشه من غرب السودان لمجابهة الغزو الانجليزى القادم من شمال السودان، ولتكون المتمة قاعدته العسكرية،ثم سمح ود تورشين لزعماء الجعليين بالعودة الى ديارهم لتنفيذ أمره باخلاء المتمة وترك الجعليات ليخدمن الجهدية!! واستبقى زعيمهم عبدالله ود سعد رهينةً عنده، وأفلح عبدالله ود سعد فى رشوة الأمير يعقوب جراب الراى ليتوسط له لدى أخيه عبدالله، فخرج من البقعة الى المتمة ووصلها رغم ملاحقة مجموعة من الهجانة له بأمر من الخليفة، وقرَّ قرارُ الجعليين على عدم اخلاء المتمة وقال عبدالله ود سعد: (موجعانى قومة نمر من شندى)،حسماً لأى قول باخلاء المتمة، فى ذلك الوقت كان ود تورشين قد أصدر أمره الى محمود ود أحمد بالتحرك الفورى من كررى الى المتمة وأن يُجِدَّ فى السير ليصلها قبل ان تصلها امدادات كتشنر !! وصل محمود ود أحمد على رأس مائة ألف مقاتل وأوقع بالجعليين نحواً من ألفى قتيل، ثم طارد البقية الباقية منهم الى ابوطليح وقرب الجكدول وقرى الضفة الشرقية للنيل،وعاث جهدية محمود ود أحمد فى المتمة نهباً وسلباً (الشفشفة تجرى فى دمائهم من قديم الزمان!!) وألقت بعض نساء الجعليين بأنفسهن فى النيل، فقد فضلن الموت على العار!!
-بلغت حصيلة التغنيم والسبى أو ما أمكن ارساله من المتمة الى بيت المال: ألف رأس من البقر،و١٤٠ أوقية من الذهب، و٣٠ رطلاً من الفضة و٤٢ من الرقيق،و٣٠ من الجوارى، وخُصَّ ود تورشين وحده بعدد: ٤٢ بنتاً بكراً،وكانت خسائر الجهدية مقابل كل ذلك فقط ٨٨ قتيلاً فقط.
وهكذا لم يوفر ود تورشين صليحاً له بين سائر القبائل الا عشيرته الأقربين.
-ثم يأتى من يحدثنا عن التعايشى القديم داعماً لحكومة التعايشى الحديث المسماة تسويس !! بل ويطالبنا بتمجيد تاريخ المتمهدى الذى بدأ بكذبة انه مهدى الله المنتظر الذى سيملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت جوراً وظلماً، وتلك الحجة الداحضة التى كانت بايعاز من خليفته فى ما بعد ود تورشين، الذى زاد الظلم ظلمات بعضها فوق بعض،وزاد على الجور جرائر لا يحصيها الا المولى سبحانه وتعالى،
يختم الدكتور محمد سعيد القدال هذا القسم من الباب بقوله ختم هذا الصراع بين أولاد البلد وأولاد العرب بدمٍ غزير مسفوك، وأدت المذبحة الى شرخ كبير فى جسد الدولة المهدية وآثرت مجموعات كبيرة من الجهدية أن تعود الى ديارها بما حصلت عليه من غنائم. ذات مافعلته الجاهزية المرتزقة فى عدوان مليشيا آل دقلو وهروبها بالغنائم الى حاضنتها أو الى تشاد وماجاورها،ويقول لك القضية، ودولة٥٦ والفيلول والkeyزان.
الا لعنة الله على الظالمين.
النصر لجيشنا وما النصر الا من عند الله.