سودانيون

محمد الحسن محمد نور يكتب: مصر تحت التنفس الاصطناعي

محمد الحسن محمد نور يكتب: مصر تحت التنفس الاصطناعي

لطالما مثلت مصر العقبة الكؤود، والكابوس المرعب أمام مشروع “إسرائيل الكبرى”. فمصر هي التي خاضت حربين ضد إسرائيل: خسرت الأولى، وانتصرت في الثانية، وهي التي تبنّت فكرة القومية العربية، وأنشأت جامعة الدول العربية، وأثبتت أنها الرقم الأصعب في معادلة الشرق الأوسط. غير أن هذا الثقل التاريخي والسياسي بدأ يتآكل منذ أن غُيِّبت الإرادة الوطنية خلف حسابات السلطة، وتحولت مصر من دولة مركزٍ إلى طرفٍ محاصرٍ في لعبةٍ إقليميةٍ معقدة.

ولعل المفارقة المحيّرة في تاريخ التحولات المصرية الحديثة هي أن عبد الفتاح السيسي — الذي وصل إلى سدة الحكم عبر عملية إقصاء صريحة للرئيس المنتخب محمد مرسي — كان هو الناجي الوحيد من كارثة الطائرة المصرية التي غرقت في مثلث برمودا. كانت تلك الطائرة تقل نخبة من الضباط المصريين الذين تلقوا تدريبات متقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أثار الحادث حينها تساؤلات كثيرة، تجددت وازدادت حدّتها حينما أصبح السيسي لاحقًا رئيسًا لمصر، وأصبح هو القناة التي عبرت من خلالها قوى إقليمية ودولية لفرض سياساتٍ أسست لمرحلة جديدة من التبعية.

لقد تمت إزاحة الرئيس الشرعي المنتخب بدعمٍ خليجي غير محدود، شكّل العمود الفقري للانقلاب، وفتح الباب أمام سيطرة كاملة على دفة الحكم. كان ذلك الدعم بمثابة شيكٍ على بياض لإنقاذ الاقتصاد المصري المترنّح وتثبيت أركان الانقلاب وشرعنته، لكنه في جوهره مكّن الممولين ومنحهم سلطة التحكم في القرارين السياسي والاقتصادي معًا. ومع مرور الوقت، ترسّخ النظام وتعمّق النفوذ الخليجي في مفاصل الاقتصاد المصري، حتى صار الاقتصاد نفسه رهينةً للاستثمارات الخارجية التي كبّلت يد النظام الحاكم عن الدفاع عن أمنه القومي أو اتخاذ قراراتٍ مستقلة لصون سيادته.

ولم يكن هذا الارتهان الخارجي مقصورًا على الدعم المالي، بل تجاوزه إلى تبعيةٍ استراتيجيةٍ خطيرةٍ في مجال الطاقة. فبينما كان “غاز مصر الذي يُباع لإسرائيل بثمنٍ بخس” في عهد مبارك وقودًا لغضب الثوار أثناء احتجاجات الربيع، انقلبت المعادلة اليوم لتصبح مصر هي المستورِدة للغاز الإسرائيلي، في واحدةٍ من أكثر المفارقات دلالةً على انكسار الإرادة الوطنية. وقد أعلنت إسرائيل مؤخرًا وقف إمدادات الغاز دون أن تقدّم مبررًا مقنعًا، فيما التزمت القاهرة الصمت، وكأنها تخشى أن يتوقف عنها الأوكسجين ذاته. إن الغاز الذي كان يومًا مصدرًا للسيادة أصبح اليوم أداةً للابتزاز، يضع القرار المصري في قبضة تل أبيب أكثر من أي وقتٍ مضى.

لم يعد الأمر مقتصرًا على اتفاقية كامب ديفيد كإطارٍ للضبط، بل أصبحت السياسة المصرية نفسها تُوظّف في محاصرة قطاع غزة، والتحكم في معبر رفح، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل توجيه الاتهامات التحرشية المتكررة للجيش المصري بالتحضير لعملياتٍ ضدها أو نقل السلاح عبر المسيرات إلى حماس. إنه استعداءٌ مقصود لكى يُبقي الجيش المصري في حالة دفاعٍ مستمرة لإثبات التزامه بالاتفاقية، في الوقت الذي تخرق فيه إسرائيل ذات الاتفاقية علنًا باحتلال محور فيلادلفيا.

ولم تكن تلك الاتهامات عابرة، بل وُظّفت لاستعداء واشنطن على الجيش المصري، مما كبّل حركته في المناطق الحدودية بموجب نصوص كامب ديفيد نفسها، وحوّله من قوةٍ إقليميةٍ مهابة إلى جهازٍ دفاعي محدود الصلاحيات في جغرافيته الحيوية.

ولم يقتصر الحصار على الحدود التقليدية، بل تمدد إلى الأمن القومي والمائي. فملف سد النهضة الذي يهدد الحياة نفسها في وادي النيل، ظل سيفًا مسلطًا على رقبة مصر، بينما اكتفت القاهرة بالمناورات الدبلوماسية أمام تعنّت إثيوبيا المدعوم — كما يبدو — من قوى كبرى تدرك تمامًا ما يعنيه خنق مصر مائيًا.

ثم جاءت حرب السودان لتضيف قيودًا جديدة على القاهرة، حيث وجد النظام المصري نفسه في موقفٍ لا يُحسد عليه؛ فإن أراد تأمين حدوده الجنوبية، فإنه سيعادي بالضرورة أولياء نعمته الذين دعموه وقت استيلائه على السلطة وثبّتوا أركان حكمه، وهو غير قادر على ذلك.

لقد بدأت تلك الحرب باقتحام مليشيا الدعم السريع لقاعدة مروي الجوية وأسر عددٍ من الجنود المصريين، ثم سيطرة المليشيا على المثلث الحدودي وسط صمتٍ مصري مريب، في وقتٍ خرج فيه قائد المليشيا حميدتي مهددًا مصر علنًا بنسف السد العالي. ومع كل ذلك، اختارت القاهرة الصمت.

تزامن ذلك مع ضغوطٍ إسرائيلية وغربية متصاعدة لفرض خطة تهجير الغزيين إلى سيناء، في ما بدا ابتزازًا سياسيًا يهدف إلى تحويل أرض مصر إلى غرفة عمليات لتصفية القضية الفلسطينية. وفي ذات السياق، واصلت إسرائيل تعزيز وجودها العسكري عبر احتلال محور فيلادلفيا وإنشاء مليشياتٍ تابعة لها — أبرزها ما يُعرف بـ”مليشيا أبو شباب” — ضمن ترتيباتٍ أمنيةٍ تهدف إلى تفكيك السيطرة المصرية على حدودها الشرقية.

وفي وقتٍ سابق، وفي خطوةٍ مفاجئةٍ ما تزال مثار جدلٍ في الشارع المصري، أعلنت الحكومة المصرية التنازل عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في مدخل خليج العقبة ونقل سيادتهما إلى المملكة العربية السعودية. هذا القرار جعل من مدخل خليج العقبة ممرًا دوليًا، وفتح الباب أمام تحقيق حلم إسرائيل بإنشاء قناة بنغوريون التي تربط ميناء حيفا (أشدود) بالبحر الأبيض المتوسط، كمنافسٍ استراتيجي وربما بديلٍ محتملٍ لقناة السويس.

وتزامن ذلك مع الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادي الهندي – الخليجي – المتوسطي لنقل الحاويات عبر السكك الحديدية، والذي يربط الهند بدول الخليج وصولًا إلى المتوسط عبر تل أبيب التي تمثل قلب المشروع. إنه مشروع ضخم يُعاد من خلاله رسم خريطة النقل العالمية، بحيث تُهمَّش قناة السويس ويُسحب البساط من تحتها.

كانت مصر ما تزال تتمتع بشواطئ آمنة على البحر الأبيض المتوسط، إلا أن إسرائيل أبت إلا أن تهدد هذه الجبهة الأخيرة. ويكتمل المشهد بنشر أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية والاستعدادات الحربية المتقدمة في جزيرة قبرص قبالة السواحل المصرية على المتوسط، ما يعني أن الحصار لم يعد معنويًا أو اقتصاديًا فقط، بل جغرافيًا وعسكريًا خانقًا أيضًا من جميع الجهات.

كل هذه التطورات — من الداخل المرهق اقتصاديًا إلى الخارج المحاصر سياسيًا وأمنيًا — تجعل مصر اليوم تعيش فعليًا على التنفّس الاصطناعي، تبقى مفاتيح تشغيله وإيقافه بعيدةً عن القاهرة.

فهل تنهار مصر؟

وما الذي يعنيه انهيارها إن حدث؟

وهل ستكون الأخيرة في سلسلة الانهيارات؟

أم أنها المفتاح السحري لكنوز الملك سليمان؟

8 نوفمبر 2025

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.