لم يكن الغياب حدثًا، بل كان انسحابًا صامتًا من التفاصيل، من النَفَس، من الأماكن التي كانت تزدهر بوجوده..
لم أكن أظن أن الغياب يُمكن أن يُختار، أن يُفضَّل على البقاء، أن يكون مريحًا أكثر من حضورٍ وعد بالبقاء ثم نكص..
قال لي: “سأكون هنا دائمًا.”
فآمنت..
وأرهنت نبضي لتلك الكلمة القصيرة..
لكن الغياب جاء، لا بحروب ولا أسباب، بل بنعومة الخذلان.
غاب كمن يطفئ الضوء ويرحل، وترك خلفه غرفة من الأسئلة، وصوتًا لا ينام..
ثمة أمور لا نفهمها..
لماذا يصمت الذين كانوا يحدثوننا عن الأبد؟
لماذا ينزفون من ذاكرتنا ويتركوننا نلملم ما تبقى من خُطى ووعود؟
كل شيء من بعدهم أصبح باهتًا.
الحياة تكرار بارد..
الأيام تتهجّى نفسها، والروتين يلوكنا ببطء..
حتى الحب الذي كان، أصبح تهمة…
والقربى صارت مرهونة بالتوجس، والخوف من التكرار.
فحين يعد أحدهم بالبقاء، لا أصدقه..
وحين يقول: “أنا هنا”، أنظر حولي… لعل الغياب يتربص من جديد..
آثَرنا الغياب؟
أم أُجبرنا عليه؟
لا أدري…
لكن الذي أعلمه تمامًا،
أن الرحيل لا يوجع حين يحدث، بل حين يتكرر صداه في القلب كلما تذكّرنا:
أنهم قالوا “سنكون هنا”،
ثم اختاروا ألا يكونوا..